فى خبر كان!

فى خبر كان!

د. محمد يونس

سمعت الرئيس الأمريكى ترامب خلال جولته الخليجية يتحدث بأسى شديد عن أن الحرب الروسية الأوكرانية أودت بحياة آلاف الجنود، مؤكدا أنه رجل سلام يكره الحروب، ولكن لم يعرب عن شعوره عن قتل أكثر من 52 ألف فلسطينى فى غزة، ولم يطلب وقف القتال هناك، على الرغم من أن الزعماء العرب الذين التقاهم طالبوا بذلك.

 وبعد تصريحات غاضبة ومتأخرة من بعض القادة الأوروبيين حول هذه المأساة، اتسعت دائرة السؤال قليلا: وماذا عن قادة العالم الحر الآخرين؟ وأين صوت الكتل والنخب الغربية.. الأحزاب والجمعيات والنقابات والكتاب وأساتذة الجامعات وغيرهم، والذين لديهم حرية التعبير والحركة أكثر من بقية شعوب العالم، ويقدمون أنفسهم على أنهم حراس الحرية وحقوق الإنسان؟! ولماذا التقاعس الدولى عن وقف هذه الإبادة الجماعية؟

هل هم أسرى السردية الصهيونية، أم أننا نحن العرب الذين قصرنا وتأخرنا فى توصيل الرواية الحقيقية لما يحدث؟.. أيا كان السبب، فالشاهد هو أنه إذا كان هذا حال من عاصروا هذه الجريمة التى ترتكب على الهواء مباشرة، فكيف سيكون حال الأجيال المقبلة، حينما تختفى آثار الجريمة وأدلتها، لتتكرر الإبادة مرة أخري، وهذا أمر وارد بقوة، لأن المحتل لديه خطط وتصورات توراتية ويعلن جهارا نهارا امتداد خريطته فى المنطقة ورغبته فى السيطرة عليها سواء عسكريا كما هو الحال فى فلسطين ولبنان وسوريا، أو بشكل غير مباشر فيما يسميه تغيير خريطة الشرق الأوسط ليكون هو القوة المهيمنة فيها. وحتى لو أوقفت التحركات الدولية التى ظهرت «بعد خراب مالطا» أو غزة، هذه الإبادة الجماعية فما الذى يمنع تكرارها؟

أعتقد أن الذى يمنع تكرار هذه المأساة أمران: الأول توثيق جريمة الإبادة الجماعية والعمل على إبقائها حية فى ضمير العالم، ليس فقط على غرار ما فعله اليهود بشأن الهولوكوست، الذين بالغوا فى الترويج لها وتضخيمها وأصدروا قوانين تعاقب من يشكك فى عدد ضحاياها، وإنما نريد أن تكون دعوتنا إنسانية عامة، لا تقتصر على حماية جماعة بعينها كما فعل اليهود، وإنما لحماية أى عرق أو دين أو شعب من التعرض لمثل هذه الإبادة؟ لأن السيناريو الذى اتبعه اليهود قد نجح فى منع تكرار المحرقة ضدهم ولكن لم يمنع تكرارها ضد غيرهم. والعجيب هنا أن الذين عانوا هذه الجريمة هم أنفسهم الذين ارتكبوها فى حق الفلسطينيين.

والأكثر عجبا أن المحرقة التى لم يرها أحد، لاتزال تنال الاهتمام العالمى ويستمر إحياء ذكراها منذ أكثر من نصف قرن، فى حين أن محرقة غزة تتم على مرأى ومسمع العالم أجمع ولكن حتى اليوم لم تتبلور جهة معينة لتوثيقها بشكل مؤسسى لتكون معلما يذكر العالم بها. كنا نتوقع أن تسارع هيئات عربية وإسلامية خلال الهدنة التى تمت بغزة لتوثيق هذه الإبادة وتسجيل شهادات حية عنها، فالضمير العربى يتساءل: كم مؤسسة إعلامية أو نقابة صحفية أو هيئة حقوقية دشنت متحفا لتوثيق الإبادة الجماعية؟ كم فيلماً وثائقياً عربياً تم إنتاجه عنها؟ بل إن الفيلم الوثائقى الذى يكاد أن يكون يتيما: «ضع روحك على يدك وامش» كان لمخرجة إيرانية (سبيده فارسي) وقد قتلت إسرائيل بطلته المصورة الفلسطينية فاطمة حسونة مع عشرة من أفراد أسرتها فور علمها بأنه سيعرض فى مهرجان كان السينمائى 2025. والفيلم عرض بالفعل فى المهرجان بينما غيب التوحش الصهيونى بطلته فاطمة، التى كانت تنقل جانبا من المأساة بغزة أثناء الحرب.

ذات يوم كتبت فاطمة على حسابها فى «فيسبوك»: «إذا متُّ، أريد موتًا صاخبًا. لا أريد أن أكون مجرد خبر عاجل، أو مجرد رقم فى مجموعة، أريد موتًا يسمعه العالم، وأثرًا يبقى عبر الزمن، وصورة خالدة لا يمحى أثرها بمرور الزمان أو المكان» وبالفعل كان استشهادها صاخبا وسمع العالم موتها، فقد كرمتها إدارة مهرجان «كان» وشهد حفل افتتاحه توقيع 380 فنانًا عالميًا على رسالة مفتوحة، أدانوا من خلالها «الصمت حيال الإبادة الجماعية التى ترتكب فى غزة» واليوم اختتم مهرجان «كان» ولكن لا أحد يعلم متى تختتم هذه الإبادة الجماعية؟! بل نخشى أن تصبح غزة كلها «فى خبر كان»!

التعليقات