هل نحن إزاء غياب القيم الحضارية الغربية عندما يتعلق الأمر بالشرق أم أننا بإزاء غفلة عربية عن توعية العالم بقضايانا؟ وأهمها القضية الفلسطينية؟ طرحنا فى المقال السابق سؤالا حول أسباب التقاعس الدولى عن وقف الإبادة الجماعية بغزة، وكيفية خلق وعى عالمى بأبعاد هذه الجريمة لمنع تكرارها، وذكرنا ان هناك أمرين لتحقيق هذا الهدف، الأول يكمن فى توثيق علمى مؤسسى لمظاهر هذه الإبادة ودوافعها، ونستكمل اليوم مناقشة جوانب هذه القضية.
لو حدث 10% من جرائم الحرب التى شهدتها غزة وكان الضحايا غربيين، لوجدنا عشرات الأفلام الوثائقية والروائية والقصص، والمقالات والبحوث عن حجم الجريمة وآثارها، ولو أن من تقوم بالإبادة دولة عربية أو مسلمة، لخصصت وسائل الإعلام صفحات عديدة ومساحات فضائية كبيرة عن «الهمجية العربية» و«الإرهاب الإسلامي»، ولكن للأسف لا أحد يتحدث عن الهمجية العبرية ولا الإرهاب اليهودي! اذا افترضنا فعلا أننا بإزاء ازدواجية فى المعايير من جانب الغرب، حيث تغيب قيمه الحضارية إزاء القضايا التى تحدث خارج نطاقه الجغرافى (موقفه من أوكرانيا فى مقابل موقفه من غزة) فإنه فى المقابل نعانى غفلة عربية للتوعية بقضايانا، وحديثنا ينصب هنا عن جهود النخب أو المجتمع المدنى بمجتمعاتنا العربية والإسلامية. إن تداعيات المشهد الإقليمى الراهن والتحديات الجيوسياسية تنم عن خطط يجرى تنفيذها تهدد الأمن القومى العربى والمنطقة بأطماع توسعية، ضمن معتقدات توراتية مزيفة تبرر كل الوسائل المحرمة لانتهاك حقوق الإنسان والأعراف التى تحميها التشريعات الدولية، وقد تابعنا تطبيقات عملية لكل ذلك خلال العدوان الحالى على غزة والضفة.
ومواجهة هذا الخطر تتطلب تضافر مختلف الجهود لكشف زيف هذه المزاعم وبيان حقيقة الجرائم والانتهاكات التى جرت وتقديم مرتكبيها للعدالة، وتحليل الدوافع والأفكار الكامنة وراءها والتعريف بخطورة التطرف اليهودى على العالم وعنصريته وعنفه، وهذا يحتاج الى دراسات على مستويات عديدة، مثلا لتحليل شخصيات جنود الاحتلال ودوافعهم وهم يطلقون النار عمدا على المدنيين العزل والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، ومناطق الإيواء..الخ.
وبيان الأفكار المتطرفة وراء حجم العنف والعدوانية والشراسة لديهم التى تجعل قوات الاحتلال الإسرائيلية تقتل الأطفال والنساء والأطباء وطواقم الإسعاف والإعلاميين بدم بارد كما اعترفت بذلك، ضمن تحقيقات استقصائية، ومنها الفيلم الوثائقى «من قتل شيرين؟» الذى انتجته منصة زيتيو الأمريكية وقد أكد القتل المتعمد للإعلامية شيرين أبو عاقلة مراسلة «الجزيرة» بفلسطين فى 11 مايو 2022 وكشف عن شخصية القاتل، وهو الجندى الإسرائيلى ألون سكاجيو وذلك بعد 3 سنوات من محاولة الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية التستر على هويته وتمكن فريق التحقيق من تسجيل اعتراف زميله. وعلى غرار هذا التحقيق يمكن لوسائل الإعلام العربية إجراء تحقيقات استقصائية حول القتل المتعمد للصحفيين والإعلاميين بغزة على يد الاحتلال الإسرائيلى والذين بلغ عددهم منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة 212 إعلاميا. كما قتل الجنود الإسرائيليون عمدا 14 مسعفا بغزة يوم 23 مارس الماضي، وأقرت إسرائيل بذلك، كما حدثت جرائم مماثلة عديدة لمختلف فئات المدنيين بغزة كالطواقم الطبية والتعليمية.
وهنا نتساءل: ماذا فعلت اتحادات الصحفيين والأطباء والمعلمين وغيرهم والجمعيات المعنية بالأطفال والنساء والمسنين بالدول العربية؟ هل خاطبوا المنظمات المناظرة لهم بالعالم لفعل شيء ما ضد هذه الجرائم التى أرتكبت بحق زملائهم بغزة.
والأمر الثانى لوقف الإبادة ومنع تكرارها هو معاقبة الذين ارتكبوا هذه الجريمة، وهنا نثمن دور جنوب إفريقيا التى بادرت برفع دعوى إلى محكمة العدل الدولية، ضد إسرائيل لارتكابها جرائم الإبادة الجماعية مدعمة بالأدلة وخاضت معركة قوية وانضمت إليها عدة دول، ولكن هذه الجريمة التى لم تعرف البشرية مثيلا لها منذ الحرب العالمية الثانية تحتاج الى توسيع الدائرة لإبقائها حية فى ضمير العالم، وهنا يأتى دور اتحادات المحامين وجمعيات حقوق الإنسان فى عالمنا العربى والإسلامى والمنظمات الإقليمية والدولية لرفع قضايا ضد مرتكبى هذه الجريمة ومن شجع عليها وتعاون فيها.
وعلى هذا المنوال هناك الكثير الذى يمكن للمجتمع المدنى فعله ـــ إضافة الى المؤسسات الأخرى ـــ لأن التهديد الوجودى لن يقتصر على الفلسطينيين فقط وإنما يشمل الأمة العربية كلها التى ليس أمامها سوى أن تختار: إما أن تكون أو تصبح «فى خبر كان»!
التعليقات