دروس التاريخ ومستقبل الجغرافيا 

دروس التاريخ ومستقبل الجغرافيا 

د. محمد يونس

«التاريخ يعيد نفسه فى المرة الأولى كمأساة، وفى المرة الثانية كمهزلة» كما قال ماركس، لذا يتوجب علينا دراسة التاريخ ليس فقط لكى نجيب عن أسئلة الماضى فى امتحان الدراسة العابر، وإنما أيضا لكى نفهم معضلة الحاضر ونفك شفرة المستقبل فى اختبارات الحياة المستمرة، ومن ثم نتجنب المهزلة!..علينا أن ندرك قيمة الحدود حتى نحافظ على الوجود! وأن نتعلم من دروس التاريخ كى نحصن مستقبل الجغرافيا!

تتشابه الأحداث التاريخية فى حقب عديدة ولكن الوقائع الراهنة تشى بضرورة الاتعاظ من حقبة «ملوك الطوائف».. كانت بلاد الأندلس منذ الفتح الإسلامى عام 711م قوية متماسكة خاضعة لحكم مركزى فى قرطبة، وازدهرت حضارة المسلمين هناك زمن الدولة الأموية. لكن بدأ التفكك فى مستهل القرن الخامس الهجرى (الـ11الميلادي) لتندلع الفتن بين المسلمين، بعد سقوط الخلافة الأموية بالأندلس عام 1031م، وتفتت الدولة إلى 22 دويلة صغيرة مثل غرناطة، وإشبيلية، وبلنسية وغيرها وحكم كل منطقة أمير أو ملك، عرفت تلك الحقبة (1031 ــ 1090م) بعصر «ملوك الطوائف».

تعتبر تلك الفترة محطة تاريخية تجمع كل التناقضات المجتمعية التى أفرزت نوعا من القابلية، لمختلف أنواع الخضوع والتبعية للملوك الأوروبيين، وهنا نجد أنفسنا أمام سنن تاريخية وقوانين ثابتة تجعل من المسلمين بشكل عام والعرب بشكل خاص فى كثير من الأزمنة هدفا سهلا للأعداء كلما تفشت الخيانة السياسية والظلم الاجتماعى والفساد الأخلاقي، وهى عوامل هدم داخلية تعتبر أخطر بكثير من تأثير العوامل الخارجية. لذا فمن الضرورى التوقف عند أسباب تبدل الأحوال فى الاندلس من فترة ازدهار حضارى وقوة للدولة الإسلامية، إلى انقسام وضعف بلغ حد أن يدفع ملوك الطوائف الجزية لملوك إسبانيا وما تبعه من انهيار تام وسقوط لتلك الممالك.

نستقرأ التاريخ وعيننا على الحاضر من حيث أوجه التشابه والاختلاف، لأن تشابه المقدمات سوف يؤدى الى تشابه النهايات.. بداية نتعرف على أسباب الانقسام والضعف كما حللها المؤرخون، وهى أولا: الصراعات الداخلية بين الطوائف، حيث تنافس الأمراء على السلطة والموارد، مما أدى إلى حروب مستمرة بينهم. فتلك الدويلات ورثت ثراء دولة الخلافة، لكنها لم ترث قوتها، مما جعلها فريسة سهلة للإسبان الزاحفين عليها من الشمال بقيادة (ألفونسو السادس) الذى نجح فى توحيد مملكتى قشتالة وليون، وسيطر على الممالك المسيحية الشمالية، وبث الرعب فى قلوب ملوك الطوائف هددهم فراحوا يتوددون إليه ويدفعون له الجزية كى يستعينوا به على إخوانهم من الملوك الآخرين!. الأمر الذى شجع ألفونسو على التهام حواضر الأندلس واحدة بعد الأخري. ثم كانت الطامة الكبرى عندما تحالف بعض الطوائف مع أعدائهم ضد جيرانهم المسلمين مثل استعانة المعتمد بن عباد ملك إشبيلية، بملك قشتالة، ودفع له 50 ألف دينار، لكى يعينه فى السيطرة على غرناطة!

ثانيا: غياب الوحدة السياسية والعسكرية وعدم وجود قيادة مركزية قوية كما كانت فى عهد الدولة الأموية، فبدلا من تلك الوحدة، تم الاعتماد على المرتزقة والجيوش المدفوعة.

ثالثا: البذخ والانشغال بالترف فقد اهتم بعض الملوك بالشعر والفنون والعمارة (مثل قصر الزهراء فى قرطبة وقصور إشبيلية)، لكن هذا الترف صاحبه إهمال للجيش، وفى المقابل كانت الممالك الأوروبية تعزز قوتها العسكرية وتستعد للاستيلاء على المزيد من أراضى المسلمين وبعد استنزاف الأموال اتجه ملوك الطوائف إلى زيادة الضرائب لتمويل حياة البذخ، مما أثار السخط.

رابعا: التدخل الخارجى حيث استغلت الممالك الأوروبية انقسامات المسلمين لتوسيع أراضيها (مثل استيلاء ملك قشتالة على طليطلة 1085م بعد حصارها 9 شهور دون أى دفاع عنها من ملوك الطوائف، مما مهّد للسقوط النهائى لتلك الممالك لاحقًا. وبداية عصر المرابطين ثم الموحدين كمحاولات لتوحيد الأندلس، لكن الضعف استمر حتى سقوط آخر مملكة غرناطة 1492م. وبعد أن سلم الملك أبو عبد الله محمد الثانى عشر آخر، ملوك المسلمين بالأندلس، هذه المملكة لملك القشتاليين، ثم غادرها، منهيا نحو 800 عام من حكم المسلمين هناك، توقف عند هضبة والتفت إلى غرناطة وبكى فقالت له أمه عائشة الحر :»ابكِ مثل النساء مُلكًا مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال»!!..حفظ التاريخ مشهد البكاء، بينما ضاعت الجغرافيا (الوجود والحدود) وضاع معها «زمان الوصل بالأندلس»!.

التعليقات