"الأهرام" مرآة للهوية المصرية وتعزيز الوطنية"1" 

"الأهرام" مرآة للهوية المصرية وتعزيز الوطنية"1" 

د. مــحــمــد يــونـــس

 تعتبر الأهرام منبرا رئيسيا لبلورة وتعزيز الهوية الوطنية المصرية، منذ صدورها بالإسكندرية عام 1876، وحتى اليوم، فقد ظلت على مدى 150عاما صوتًا يعبر عن تطلعات المصريين، ويسجل أحداثهم، وينقل أمالهم وآلامهم ويشكل وعيهم. إنها ليست مجرد صحيفة، بل هي جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني المصري. وبيان هذا الدور - بمناسبة الاحتفال بمرور قرن ونصف القرن على تأسيسها- يستلزم أن نعرج بداية على نشأة فكرة الوطنية المصرية في العصر الحديث.

 لم تكن هذه الفكرة وليدة لحظة واحدة، بل تبلورت عبر مراحل تاريخية حاسمة، ويمكن القول أن ثمة تلازما تاريخيا بين بداية تكوين الجامعة الوطنية المصرية فى العصر الحديث وبناء الدولة الحديثة على عهد محمد علي، فلم يشيد الجامعة الوطنية بمصر حزب سياسي أو أي جماعة أهلية، وإنما كان الجيش والدولة هما المنطلق لهذه الجامعة، وفي أحشائهما ولدت (المصرية). وقد بدأت فكرة الوطنية المصرية، كما نعرفها اليوم، في التبلور بشكل واضح في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.  

وهناك 3 عوامل رئيسية ساعدت على نمو فكرة الوطنية المصرية فى العصر الحديث، وهي:أولا: تحدي الاحتلال البريطاني للشعور الوطني لدى الشعب المصري. وثانيا الاتجاه العالمي نحو فكرة القومية خلال القرن التاسع عشر،بخاصة فى أوروبا والذي كان لها انعكاساته على مصر. وثالثا: وجود الخديوي عباس حلمي باعتباره محور الحياة السياسية والوطنية في ذلك الوقت، فقد اقترن ظهور الحركة الوطنية بعد الثورة العرابية بتوليه عرش مصر في 8يناير1892م، حيث نجح في الانتقال بالحركة الوطنية من دورها السلبي إلى دورها الإيجابي، وسواء كان الدافع وراء ذلك هو رغبته فى الاستئثار بالحكم، أو الغيرة الوطنية الصادقة، فإن وقوفه إلى جانب الحركة الوطنية في بداية عهده كان له أثره فى التمهيد لأن تعلن عن وجودها.

وقد ساهم الامتزاج الحضاري بين المسلمين والأقباط بمصر، فى تكوين المناخ التاريخي والاجتماعي والثقافي والنفسي لتبلور المفهوم القومي للجماعة السياسية المصرية. وبهذا المنطلق نمت فكرة القومية، وظهر "مصر للمصريين" كشعار سياسي يعبر عن الجامعة الوطنية، وعن طموحها لبناء الوطن المستقل الذى يحكمه بنوه من أبناء مصر.

ومن جانب آخر كانت الثورات المصرية عاملا أساسيا في بلورة الوطنية المصرية، بدءا من ثورتي القاهرة الأولى والثانية خلال الحملة الفرنسية على مصر(1798-1801) فالمقاومة الشعبية ضد الغازي الأجنبي مثلت أولى الشرارات التي وحدت المصريين ضد عدو مشترك. وقد أسفرت عن انسحاب القوات الفرنسية. ثم تلتها ثورة أحمد عرابي (1881-1882) التي كانت تعبيرًا عن رفض الهيمنة الأجنبية، وأكدت أن المصريين هم أصحاب الحق في حكم بلادهم. بينما شكلت ثورة 1919 نقطة التحول الرئيسية، حيث تبلورت فيها فكرة الوطنية المصرية بشكلها الحديث. فالمطالبة بالاستقلال التام، والتكاتف بين المسلمين والمسيحيين، وظهور زعماء شعبيين مثل سعد زغلول، كلها عوامل رسخت الهوية الوطنية المستقلة عن أي انتماءات أخرى. ثم اكتمل هذا التبلور بقيام ثورة 23 يوليو 1952 التي عمقت روح الوطنية في وجدان الشعب المصري، مع التأكيد على الانتماءات العربية والأفريقية والإسلامية عبر أفعال ومواقف لمسها العالم أجمع.

وقد عكست الصحافة المصرية هذه القضية وتنوعت الاتجاهات التى طرحت في هذا الصدد تبعا لسياسة وانتماء كل صحيفة. ويبين رصد عدد من الباحثين -ومنهم د. فاروق أبو زيد - لبدايات فكرة الوطنية المصرية فى الصحافة المصرية، عقب الاحتلال البريطاني عام 1882م، أن هذه الفكرة قد بدأت غامضة غير محددة، ثم أخذت تتطور وتتكامل حتى أخذت شكل الاتجاه الرئيسي فى الحياة الفكرية السياسية بمصر. وتناولت الصحافة المصرية فكرة الوطنية من خلال طرح عدة قضايا، من أبرزها: الوحدة الوطنية، وإيقاظ الشعور الوطني، وبعث المجد المصري القديم ورفع شعار "مصر للمصريين".

 وقد كانت الأهرام في قلب هذا التناول بأسلوبها الهادئ الرصين الذي عكس تطلعات المصريين في الاستقلال وبناء دولة حديثة. وأتاحت لي دراستي للدكتوراه :( الخطاب الديني في الصحافة المصرية.. 1882-1914) التعرف عن كثب على دور الأهرام في تعزيز الهوية الوطنية المصرية.. ولكن بيان ذلك يحتاج إلى أكثر من مقال. (وللحديث بقية)

التعليقات