فى نقد الخطـاب الدينى

فى نقد الخطـاب الدينى

د. محمد يونس

لا يختلف حال الخطاب الإسلامى المعاصر عن حال الأمة الإسلامية اليوم وما تشهده من تراجع حضارى فغالبية الدول الإسلامية استعاضت باستهلاك أدوات الحضارة عن صنع هذه الأدوات، وكأن لسان حالنا يقول: سبحان الذى سخر لنا الغرب والشرق الذى ينتج هذه المنتجات لكى نستعملها نحن العرب والمسلمين!! وإذا كانت غالبية الدول الإسلامية تقع ضمن العالم النامى، وتحاول مواجهة إشكالية التخلف فى التعامل مع القضايا والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإنها أيضا تواجه نفس الإشكالية فى التعامل مع شئون الدين، من ثم فإن تجديد الخطاب الدينى يرتبط بتجديد الأمة كلها.

ذكرنا فى المقال السابق من هذه السلسلة أن التناول العلمى لقضية تجديد الخطاب الإسلامى تتطلب أن نضع فى اعتبارنا نقاطا ثلاثا، الأولى تتعلق بمفهوم التجديد، والثانية تستعرض ملامح الخطاب الإسلامى المعاصر من منظور نقدى، والأخيرة تطرح رؤية للتجديد، وقد عالجنا النقطة الأولى فى ذات المقال، ونستعرض اليوم النقطة الثانية، حيث نلاحظ فوضى فى الخطاب الإسلامى وتباينا كبيرا بين حاملى هذا الخطاب ومروجيه. وتجاهلا واضحا لظروف متلقيه، وهنا يمكن رصد عدة سمات عامة له:

الأولى: تأرجح الخطاب الإسلامى بين الضعف والقوة، والتطرف والاعتدال. والثانية الافتقار للنهج العلمى فى الموضوعات والقضايا التى يتم تناولها والاعتماد على المبادرات والقدرات الفردية فى غالبية الحالات، بدلا من التنسيق والتكامل بين الجهود بخاصة فيما يتعلق بالتطورات والأحداث الجديدة. والثالثة: الاقتصار غالبا على دائرة رد الفعل بينما يغيب التخطيط لمحتوى الخطاب وأشكاله ومن ثم يجرى التركيز على الموضوعات الطارئة والقضايا العابرة .والرابعة: انعكاس الخلافات المذهبية الفكرية والصراعات المحلية والإقليمية والدولية على الخطاب الدينى، مما يجعل الأطروحات التى يقدمها متناقضة أحيانا، وفى أحيان أخرى تشوبها نظرة ماضوية للأحداث الجارية أو الميل الى التجريح الشخصى أو الطائفى أو المذهبى، علاوة على أن بعض الذين يتصدون للخطاب الدينى يوسعون من دائرة المحظور ويضيقون مساحة المباح على الرغم من أن الأصل فى الأشياء الإباحة.

ولا شك فى أن هذه السمات تنسحب غالبا على بعض مؤسسات الدعوة، التى تعانى بعض المجتمعات الإسلامية الضعف، وصار خطاب بعضها انتقائيا يستدعى الدين فى أوقات بعينها، بينما يغيبه فى أوقات أخرى، مما أدى إلى تراجع دورها فى المجتمع، الأمر الذى أتاح الفرصة لظهور حركات وتيارات دينية متطرفة أو على الأقل تفتقد للتأهيل العلمى والخبرة العلمية، وأدى ذلك إلى تشتت فى الخطاب الدينى، علاوة على غلبة الجمود على أساليب هذا الخطاب وسوء استغلال بعض المتصدين له للتقنيات الحديثة.

ويرى بعض المحللين أن الخطاب الدينى المعاصر فشل فى تحقيق عدة أهداف رئيسية، يتصدرها الهدف الحضارى: فالدين قوة هائلة تشحن طاقات المسلم للبناء والتنمية، بينما لم يتمكن الخطاب الدينى السائد من توظيف طاقات المسلم فى ميادين السباق الحضارى، وإنما دفع تلك الطاقات نحو الهدم، فانخراط آلاف الشباب فى مشروعات عدمية تستنزف موارد وطاقات المجتمعات الإسلامية. والثانى الهدف الدعوى، فلم يجنح هذا الخطاب فى تقديم صورة الإسلام الحضارية إلى العالم المعاصر، بل قدم صورة منفرة للمسلمين.

وأخيرا الهدف التوحيدى: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا» فلم يستطع الخطاب الدينى إصلاح ذات البين، بل زاد انقسام المسلمين إلى طوائف وفرق بسبب ادعاء كل طائفة أنها وحدها تملك الحقيقة. والنتيجة أن المسلم العادى أصبح يقف حائرا أمام هذا التشتت ولا يعرف أيهم على حق، وفى المقابل أتاح ذلك للدوائر المعادية للمسلمين اختيار الأصوات المتطرفة باعتبارها متحدثة باسم الإسلام لنشرها عبر وسائل الإعلام العالمية بما يخدم مصالحها ويكرس الصورة الذهنية المشوهة عن الإسلام والمسلمين.

وهذا نجد أن هذا الخطاب لم ينجح بالقدر الكافى فى نقل دقيق لرسالة الإسلام الحقيقية، التى تدعو إلى الخير والتسامح والمحبة والتآلف والرحمة والعدالة للبشرية جمعاء، وأخفق فى تقديم أطروحات إيجابية متصالحة مع روح العصر ومتطلباته،.فهذا الخطاب لم يكن انعكاسا لقيم الإسلام وتعاليمه الحضارية السمحة، بقدر ما كان انعكاسا لحال المسلمين المتخلف، حتى وجدنا أن بعض الذين اعتنقوا الإسلام فى الغرب يحمدون الله أنهم تعرفوا على الإسلام قبل أن يعرفوا المسلمين!

التعليقات