يتابع الكثيرون حالة الارتباك فى بعض الشئون الدينية والتى تسببها أصوات أحادية تخرج من حين إلى آخر وتمس الثوابت، أو تثير الجدل والالتباس بين الناس. مثل اجتزاء أراء تكاد تكون شاذة فى الفقه دون بيان رد العلماء عليها، كالدعوة الى المساواة بين الذكر والأنثى فى الميراث بعد التصويت المجتمعى على تلك الفرضية، فمثل هذه القضايا المفترض أن مكان مناقشتها هو قاعة البحث بين العلماء، وليس شاشات الفضائيات. فضلا عن أن الأحكام الشرعية يستدل عليها بوسائل فقهية متعارف عليها وليس بصناديق الانتخابات، لأن «الفرضيات الجدلية لا تنتج أحكاما شرعية» وفقا لما انتهت إليه دار الإفتاء.. هذا الارتباك يشير إلى نقطة مهمة تستحق التوقف عندها فى مناقشتنا للخطاب الإسلامى المنشود، وهى ضرورة إنهاء حالة الفوضى فى الخطاب الدينى الناجمة بالأساس عن كثرة المتحدثين باسم الإسلام، وعدم أهلية كثيرين منهم لهذه المهمة.
لا شك أن معالجة هذه القضية تكتنفها تعقيدات كثيرة، إذ تتعدد المؤسسات الدينية الرسمية والأهلية فى المجتمعات الإسلامية وتتنوع فكريا ومذهبيا، وهو ما يتطلب نوعا من التنسيق على المستويين المحلى والدولي، فداخل القطر الإسلامى الواحد قد تجد عدة مصادر للخطاب الإسلامي، مثل المفتي، وبعض الهيئات والتيارات الدينية المتنوعة وغيرها، وعلى المستوى الدولى نجد مجامع البحوث أو الفقه الإسلامية، ومنظمة التعاون الإسلامي، وهيئات أخرى ينضوى تحت لوائها بعض علماء الدين.
لسنا ضد التنوع بل إن تعدد المدارس الفقهية والفكرية كان دائما مصدر ثراء فى الحضارة الإسلامية، ولكن فى عصر التراجع الحضارى تحول الأمر إلى نوع من الفوضى والتشرذم، تربك المتلقى فى الداخل والخارج. وإعادة الأمر الى نصابه لن تتحقق بدون معالجة الأسباب التى أوجدت هذه الحالة، وفى مقدمتها ما أصاب المؤسسات الدينية الرسمية فى الكثير من البلاد الإسلامية من ضعف، فتراجع دورها، مما مهد الطريق لنشأة جماعات وأصوات أخرى من خارج المؤسسة الدينية الرسمية.
إن الأزهر الشريف هو المؤهل لقيادة خطاب إسلامى وسطى معتدل بحكم تاريخه وعلمائه ومناهجه، ولكن مثله مثل أى مؤسسة أخرى لابد لها من التطوير فى الآليات والوسائل والمناهج وهو ما بدأه بالفعل شيخه فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب من خلال سلسلة من المبادرات نرجو ان تتواصل. ومن هنا تأتى أهمية «اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصة التى يُرجع إليها فى شئون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة، مع عدم مصادرة حق الجميع فى إبداء الرأى متى تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة، وبشرط الالتزام بآداب الحوار، واحترام ما توافق عليه علماء الأمة.» وفقا لنص البند الحادى عشر من وثيقة الأزهر 2011م. فقد أعلنت وثيقة الأزهر بشكل واضح أنه إذا كان من الصحيح ألا يحتكر أحد الحديث باسم الإسلام، فإنه من الصحيح أيضا أن الأزهر بتاريخه العريق، بأبعاده العلمية والحضارية والعملية المختلفة، هو الأقدر والأجدر بهذا الحديث من خلال علمائه الأجلاء.
لذا فإن تأكيد وتعزيز دور الأزهر المرجعى فى الشئون الدينية مقدمة ضرورية للتنسيق المطلوب بين مصادر الخطاب الإسلامى المحلى والدولى لقيادة حوار إسلامي- إسلامى بهدف التوصل الى معالم لخطاب دينى وسطى حول القضايا الرئيسية المثارة على الساحة. وهذا يتطلب، فى مرحلة لاحقة، إحياء لجان التقريب بين المذاهب بخاصة بين السنة والشيعة.
وفى جميع الأحوال فإن الخطاب الإسلامى فى مجمله مطالب باتباع أساليب متطورة فى التناول مبنية على أسس علمية مستمدة من علوم وتقنيات الاتصال، بحيث يكون خطابا قادرا على استلهام عظمة الإسلام وإنسانيته وحضاريته وقيمه ورحمته بالناس كافة، يتجاوب مع تطورات العصر وتشابكاته وفى الوقت نفسه منطلقا من المرجعية الدينية فى أصولها المعرفية مستعينا بتراثنا الثرى فى فقه النوازل وفقه الأولويات، وأدب الاختلاف، خطابا يميز بين ما هو حالة فردية وما هو شأن عام. وقد يحسن فى هذا السياق القول- على سبيل المثال- أنه فى هذ العصر قد يغدو الأصل فى الفتوى أنها فردية وفقا لكل حالة ويكفى فيها المفتى الفرد غالبا، أما الأصل فى القضايا العامة، فهو أن يكون الاجتهاد فيها جماعيا. وكل ذلك يحتاج إلى نقاش فقهى وفكرى موسع.
التعليقات