في بيئة الأعمال الحديثة، تُقدَّم الترقية غالبًا كوسام شرف يعلّق على صدر الموظف المثالي، باعتبارها نهاية مشوار من الإنجازات وبداية مرحلة أرقى، لكن، ماذا لو كانت هذه الترقية طريقًا مفروشًا بالتعقيدات لا بالزهور؟ وماذا لو تحولت من "حلم مهني" إلى "عبء وظيفي" يقيّد العامل بدل أن يكرّمه؟
القانون الإماراتي – بتطوره وتجاوبه مع معايير العمل العالمية – يفتح لنا نافذة لطرح سؤال غير تقليدي: هل الترقية دائمًا جائزة، أم قد تكون تحوّلًا غير مرغوب فيه يستدعي تدخل القانون؟
الترقية… حق أم سلطة؟
ينطلق القانون الإماراتي من مبدأ واضح وهو الترقية ليست حقًا مكتسبًا للعامل، بل سلطة تقديرية لصاحب العمل، فغياب نصوص تُلزم بالترقية يعني أن القرار يبقى رهين احتياجات الشركة وخططها الاستراتيجية، لكن الإشكالية الأعمق: ماذا لو استُخدمت الترقية كأداة لإجبار العامل على مهام لا يرغبها أو لا يجيدها؟
متى تتحول الترقية إلى تعديل تعسفي؟
القانون الإماراتي يحمي العامل من أي تغيير جوهري في طبيعة عمله دون موافقته، فإذا كان الانتقال من وظيفة "فنية" إلى "إدارية" يغير من جوهر العقد أو يحرم العامل من المجال الذي يبدع فيه، فإن الترقية قد تُصنَّف كتعديل تعسفي.. وبمعنى آخر: ليس كل ما يلمع ذهبًا، فترقية قد تساوي في مضمونها نقلاً وظيفيًا مقنّعًا.
الترقية غير المرغوبة: هل هي إكراه وظيفي؟
يمنح قانون العمل الإماراتي الجديد (2021) العامل الحق في الاعتراض على أي تعديل يضر بمساره المهني أو يُثقل كاهله بمسؤوليات لم يتفق عليها، فإذا تضرر العامل من "الترقية"، يمكنه رفع شكوى أمام وزارة الموارد البشرية والتوطين أو اللجوء إلى القضاء، إذن، الترقية القسرية قد تُقرأ قانونيًا كصورة من صور "الإكراه الوظيفي"، وهو مصطلح لم يُستخدم صراحة بعد، لكنه حاضر في خلفية النصوص.
أبعاد أخرى للإشكالية
1. المساواة بين العمال: هل الترقية تخضع لمعايير موضوعية، أم تتأثر بالتحيزات والعلاقات؟
القانون الإماراتي يقرّ مبدأ عدم التمييز في العمل (المادة 4 من قانون العمل 2021) ويحظر أي تمييز قائم على الجنس أو العرق أو الدين أو الإعاقة، لكن عندما نصل إلى الترقية، فإن القانون لم يضع معايير تفصيلية ملزمة لصاحب العمل، بل ترك الباب مفتوحًا لسياسات الموارد البشرية الداخلية.
و الإشكالية هنا: هو غياب المعايير القانونية الدقيقة يجعل الترقيات أحيانًا خاضعة للاعتبارات الشخصية أو حتى للعلاقات، فالعامل غير المرقّى قد يرفع شكوى إذا أثبت أن تجاهله جاء نتيجة تمييز محظور فالترقية يجب أن تستند إلى معايير موضوعية (الكفاءة، والأداء، والخبرة)، وإلا فإنها قد تثير شبهة التمييز وتُعرّض صاحب العمل لمساءلة إدارية أو قضائية.
2. المردود المالي: هل يكفي اللقب الجديد، أم أن الترقية دون امتيازات مالية تُعتبر غير متكاملة؟
من الناحية القانونية، الترقية ليست مجرد لقب أو مسمى وظيفي، بل يجب أن تعكس تطورًا في المركز المالي للعامل، فالقانون الإماراتي ينص على حق العامل في أجر عادل مقابل الجهد والمسؤولية.
والإشكالية هنا: إذا حصل العامل على لقب "مدير" لكنه ظل يتقاضى نفس الأجر، فهذا قد يُعتبر "ترقية شكلية" لا تحقق العدالة الوظيفية، فالترقية عادةً ما ترتبط بزيادة في المسؤوليات، وبالتالي يجب أن يقابلها تحسن في الامتيازات المادية (راتب، بدلات، مزايا)، والترقية بلا زيادة مالية جوهرية تُفرغها من مضمونها، وقد يفتح الباب أمام نزاع قانوني إذا اعتبر العامل أن صاحب العمل استغل سلطته لتكليفه بمسؤوليات إضافية دون مقابل عادل.
3. المسؤولية الجنائية والإدارية: بعض الترقيات تضع العامل في موقع المساءلة المباشرة عن أخطاء الفريق أو مخالفات الشركة، فهل يملك العامل الحق في رفض هذه "المخاطرة القانونية"؟
هنا ندخل منطقة حساسة جدًا، ففي الإمارات، كما في أنظمة أخرى، قد يُسأل المدير جنائيًا أو إداريًا عن تقصير موظفيه إذا قصّر في الإشراف أو الرقابة.
الإشكالية هنا: ترقية العامل من منصب تنفيذي إلى منصب إداري تعني تحميله مخاطر قانونية لم يتفق عليها عند التعاقد، فإذا لم تكن هذه المسؤوليات ضمن جوهر عمله الأصلي، فقد يعتبر فرضها تعديلًا جوهريًا غير مشروع، فللعامل الحق في رفض هذه "المخاطرة القانونية" إذا لم يقترن العرض بموافقة صريحة منه أو بحوافز مالية ومهنية متناسبة. أما قبول الترقية مع العلم بالمسؤوليات الجديدة، فيعني تحمّل تبعاتها بما في ذلك المساءلة.
في النهاية.. الترقية ليست دائمًا تاجًا يُتوج به الموظف المجتهد؛ أحيانًا قد تكون قفزة في الظلام تضعه في موقع لا يشبهه ولا يليق بمهاراته، وفي الإمارات، حيث يُبنى سوق العمل على التوازن بين مصالح الشركات وحماية الأفراد، يظل السؤال مفتوحًا: هل آن الأوان لإعادة تعريف الترقية قانونيًا، بحيث تُعترف لا كجائزة فقط، بل كخيار تعاقدي لا يتم إلا برضا العامل؟
ربما تكون الخطوة التالية للمشرّع الإماراتي أن يمنح "الترقية" بعدًا أكثر إنسانية، يجعلها امتدادًا لطموح العامل لا عبئًا يثقل خطواته.
مستشارة قانونية معنية بتحليل البعد التشريعي للتنمية في قضايا الاستثمار والشركات
التعليقات