السلطة الرابعة (2)

السلطة الرابعة (2)

سناء البيسي

الناس فاكرة إن التقدم فى العمر يمحو الذاكرة، وأن مرور السنين العديدة معناه الامتنان بأنك مازلت حيا تسعى تأكل وتشرب وتنام، والموضة ما بين العيال فى كلامهم عن ومع كبار السن باطنها سخرية مغلفة بغطاء ظاهرى من الحنان المكثف، والتقدير المعنوى المُبالغ فيه، والإنصات المرهف بلا داع، والتمجيد والتبجيل بألقاب منتفخة، والإيمان الذى يبدو مطلقا بنتائج التجارب المخضرمة، واللحاق بمنح الجوائز والألقاب والريادات وأقواس النصر فى الوقت الضائع!

هذا بينما الأمر الحقيقى المسكوت عنه لديهم لا يعدو إيمانا راسخا بأن رياح ألزهايمر قد أصبحت ماثلة فى الأفق، أو أنها قد وصلت بالفعل وحطت رحالها فى محطتها، وناءت بكلكلها على المراوح، وأصابت هدفها فى الصميم، وما ينطق به المتقدم عمرا - فى عرفهم - ليس سوى تهويمات ذهنية فقدت جوهر مصداقيتها وتلاشى صداها وخرست فعاليتها، وأغلقت ملفاتها، وبطل تأثيرها بعدما تصلبت الشرايين، وذاب مفعول الالتحام، واهترأت الخيوط، وانفض الوئام، وانشغلت كل عضلة بأوجاعها، وألقى مايسترو العقل بعصاه تاركًا العزف لقلب هوائى يعيش مرحلة طفولة ثانية فى غابة الكبار..

أبدًا.. أكبر غلط.. لأننا ياولاد مع مرور الأيام والأحداث الجسّام، وطعنات التجاعيد، ورعشة الأيدي، وخناجر الفقرات وهشاشة العظام، وخلخلة الركب، وانحسار الجبهات، وزمتة الصدر، ورعونة التقلصات.. الخ.. لا يعدو لنا سليما معافى وحاضرا براقا بحقائق موثقة سوى الذكريات البعيدة وقد نسهو عما أكلناه منذ ساعة، أو إذا ما كنا قد تعاطينا الدواء، أو بأى درج دسسنا المفاتيح، أو نادينا الشغالة الجديدة باسم سابقتها، لكن لما أقول لكم عن حاجة حصلت زمان تبقى حصلت بالفعل، وهذا يعود إلى مساحة الفراغ القسرى الذى نعيشه بلا تدخل أو تشويش خارجي، فلم يعد مطلوبا منا مع السن الكبيرة تلبية لطلب بعيد، أو زيارة لمريض قريب، أو وقفة أمام حلة طبيخ، أو انحناءة لحمل عيل من الأرض، أو صعود درجات بلا درابزين، أو رحلة مع الصباح عودتها فى المساء، أو الرد على زوج داخل الحمام، فغالبية الأزواج يُفضلون مغادرة الدنيا بلا رجعة... لم يعد يشغلنا فى عالم الهوينى سوى استدعاء لحظات من شريط العقل المسجل بكل دقائقها ووقائعها وحذافيرها وشخوصها ليتم عرضها بالتفصيل الممل على الشاشة، وإن كانت هناك خاصية معينة فى السرد تأتى من كثافة المعلومات المخزونة فنخرج قليلا عن النص لإضافة معلومة اعتراضية ترد فجأة فى نفس السياق من تداعى الحكاوي، ثم عود على ذى بدء لنُكمل الحكاية تماما كما توالدت ألف ليلة وليلة من رحم واحد..!.. أرشيف الذكريات البعيدة تحيا دومًا ما بقيت فى العروق حياة، وفى مكتبة الذهن أدراجا ورفوفا وملفات بعضها معنون بـ«سرى للغاية» والبعض «للاطلاع» وأخرى «سبق استخدامه» والكثير لابد له من إعادة تدويره للاستعانة به برؤية مستحدثة، والكل على أهبة الاستعداد للاطلاع.

وكان على عينى يا غالية.. المذيعة القديرة الجميلة منى الشاذلى صاحبة الإطلالة المشرقة والثقافة الواسعة والدماثة الحاضرة، من تركت لى طرف الخيط فى انتظار تسجيل جلسات مطولة معها مع الالتزام المغرى بعدم استشعار لكاميرات أو ضغط لمواعيد، كى أستعيد بتلقائية السرد مع حرية الشطب ذكريات عشتها مع السلطة الرابعة على مدى أكثر من خمسين عاما عملت فيها مع غالبية رؤساء التحرير، واقتربت فيها من عمالقة الكتاب والأدباء والشعراء، وسافرت مرات فى مهمات صحفية لخارج البلاد، وحاورت شخصيات عربية وعالمية، وأصدرت من الكتب عشرة، وكنت أول رسامة كاريكاتير، وأقمت للوحاتى معرضين، وأنشأت أهم مجلة للمرأة كان معدل توزيعها الأسبوعى مائة ألف بشهادة معتمدة من إدارة التوزيع، وسعدت بإحاطتى بشبابها الذى تولى الكثير منهم منصب رئيس التحرير فى الداخل والخارج، والآن حدث وإن تم اختيارى ضمن زملاء أعزاء لتطويرها.. صحافتنا.

لقد كان العرض مُغريا والرفقة حانية ودائرة الضوء واسعة، والإطار فيض عناية ورعاية.. لكن.. معذرة يا منى فيبدو ظاهرا أن ليس لى فى الطيب نصيبا بسبب تركيبتى الخاصة وجيناتى المنسحبة التى لا تتصالح مع الكاميرات والعدسات ولا ينتظر معها ما هو آت على منوال كل من أساتذتى أحمد بهاء الدين وإحسان عبدالقدوس، فالكلمات لا تحضرنى إلا عن طريق وسيط وهو القلم الذى أغمسه بمحض اختيارى فى مجمل أيامى فيغوص للأغوار ليخرج من اليم بصيده المختار راويًا وحده ما لا ينطق به اللسان بلا ترتيب أو دراسة جدوي.. ومما كتبه القلم ولم ينطقه اللسان ذكريات كان الود ودى أن أقولها فى حضور ميكروفون العزيزة مني، وما طرق فى ذهنى الآن من ذكريات صحافة نهاية القرن الذى مضى عندما كان يأتينى صوته المميز فى التليفون الداخلي: إنت لسه ماطلعتيش.. حالا يا فندم.. وبسرعة زمن لم أبلغ فيه العشرين أكون قد جلست أمام على أمين بجوار ثلاثية العمالقة فى الاجتماع الأسبوعى لوضع خطة أفكار الكاريكاتير لصحف ومجلات دار أخبار اليوم.. صاروخان - رائد النكتة السياسية منذ عام 1928 ومبتكر شخصية المصرى أفندي، والرسام عبدالمنعم رخا صاحب النكتة الاجتماعية ومبتكر شخصيات ابن وبنت البلد ورفيعة هانم وغنى الحرب وميمى بك، وناظر مدرسة الكاريكاتير التى تخرج فيها عبدالسميع وزهدى وصلاح جاهين وجورج البهجورى ومصطفى حسين والذى دخل السجن عام 1933 لمدة 4 سنوات من جراء نكتة التشهير بالملك فؤاد، والكاتب الساخر محمد عفيفى منبع الأفكار الكوميدية..

فى اجتماع برج الدور السابع رفيع المستوى خفيف الروح موزع الضحكات تبزغ النكتة لتتشكل ناطقة أو مجرد رسم بدون تعليق، فتُرفض تخوفا من تبعاتها، أو تجاز بخاتم مرور صاحب الدار، أو يتم إليها الإضافات المقترحة، أو تؤجل إلى حين، وقد تطرق فكرة إحداها على ذهن على أمين فيعرضها علينا متوسمًا سمات الرضا بعدما يدور بنظراته المتسائلة فى جميع الوجوه فيقهقه رخا عاليا بصخب لتتبعه بيننا عدوى الضحك فيسأله على أمين: عجبتك مش كده؟!..

فيأتى رد رخا: بايخة.. فيترك البك ابتسامته عالقة لفترة دونما اعتراض، وتلف المسألة على مدى أكثر من ساعتين حتى تتم المواءمة بين الجالسين للهبوط بعدها إلى ورقة بيضاء وريشة وزجاجة حبر لكنها فى محتواها بمثابة عالم يضج بالأحداث..... عالم كان قائده يوما ناجى العلى رسام الكاريكاتير الفلسطينى من أصابته الاستخبارات الاسرائيلية برصاصة فى مقتل وهو فى طريقه إلى مكتب جريدة القبس الكويتية بلندن ليرحل فى الخمسين، وكان الكاريكاتير الذى يرسمه يوميا يعادل ألف فدائي، وقد اختار رمز الطفل «حنظلة» لكثير من رسومه، وقبل رحيل النجم نور الشريف كان قد انتهى من تصوير غالبية مشاهد فيلم «ناجى العلي» لكنه الفيلم الذى ظل محبوسا داخل العلب والقلب!.. ويبقى السؤال أين اختفى الكاريكاتير الآن من أوراق الصحف والمجلات؟ أين الضحكات؟ أين نبض المجتمع داخل برواز صغير؟ أين الموقف السياسى عبر خريطة لنهر النيل؟ أين حل لزيادة السكان من خلال نكتة مزدحمة؟ أين بطاقات أسعار الفاكهة والخضار المتوارية خجلا؟ أين السخرية من لافتات ناطحات لا تعرف اللغة العربية؟ أين العيل سائق التوك توك فوق الكوبري؟ أين كشك الجرائد الملتحف بإصدارات اليوم؟ أين بواب العمارة المنهمك فى قراءة الجرنال؟ أين قهوة المعاشات وكل زبون بفنجانه وجرناله؟ أين قطار الصحافة ناقل صحفنا للأقاليم؟ أين منى جريدة الحائط ومجلة الجامعة ونسخة باليد وواحدة بالآلة الكاتبة وأخرى بالبالوظة وأخبار الصباح فى الطابور؟ أين مصنع الورق الذى سنملؤه صحافة وأدبا وثقافة وكاريكاتيرا.. إنه من الحقوق فى الجمهورية الجديدة التى بدأ يتمتع بها الشعب المصرى حقه فى أن يبتسم.. أن يضحك.. أن يجد انعكاسا لقضاياه واهتماماته ومشاكله ولو على شكل نكتة.. الأمل كبير منعقد الآن على مدينة الإعلام الجديدة.. مدينة الأحلام.. التى أشار إليها رئيس الجمهورية فى المستقبل القريب.. خلال ثلاث سنوات لا غير.. حقيقة الدولة تقوم بتشييد المنشآت والصروح.. وعلينا نحن أن نملأها بالخبرات المدربة لضخ صحافة جديدة جديرة بمصرها.

◙   ◙    ◙

فى زمان الصحافة كان للصحفى شان وشنشان.. الواحد منهم يقعد محترم مبجل فى مكتبه ويأتى إليه المسئول لحد عنده، الصحفى كان جليس الملوك ومحاور الأساطين وواسطة العقد، وعلى رأس الاجتماع، والسطر منه كان له كرامة وقناعة ومسار ومنزلة وهالة واعتبار.. محمد التابعى كان أستاذ صحافة ومن تلامذته مصطفى أمين الذى قام منتصبا وسط اجتماعنا معه كمجلس للتحرير ليحادث التابعى الذى يملى عليه كشف طلباته للغداء، فنجد مصطفى بك يعود تلميذا فى صفوفنا ليقطع حديثه معنا عن السد العالى وبيت الأمة ورأيه فى انقلابات العراق ليدون 2 كيلو كباب وكيلو كفتة ضانى ونص ريش بتللو وسلاطة بابا غنوج، ويختم حديثه بالتلبية الفورية للاسراع بالإرسال وحاضر حاضر وتؤمر جنابك بأيتها حاجة تانية؟ التابعى الباشا علاقته مع تلامذته كادت تصل إلى صلة الرحم، فالبراعم على يديه تتفتح والرعاية اليقظة تعجل من تصاعد شذى الزهور الجديدة لينتشى بها الأستاذ فى الأعالي، ومن هنا يذود الكبير عن الصغير.. من هنا يصبح له بمثابة الدرع الواقي، وذلك قد أتى كمثال رواه لنا الكاتب الصحفى إبراهيم الوردانى عن أستاذه التابعى عندما كان محررا مبتدئا فى «آخر ساعة» إذ غضب التابعى من المسئول الذى شطب للوردانى ثلاث صفحات، وكيف أخذه التابعى معه إلى وزير الداخلية فؤاد سراج الدين، ويصف الوردانى اعتداد الرجل بنفسه وتلامذته فى قوله: «ركبت بجواره ومعى البروفة فى سيارته الرولز رويس الباهرة، وطربوشه المائل إلى الجانب يهتز من شدة انفعاله وغضبه! ومرقت السيارة بنا من بوابة الوزارة والعساكر تعظيم سلام، والتابعى بارستقراطيته النفاذة يقتحم الأدوار والردهات والناس ينحنون ويفسحون، ثم تندفع خطوات حذائه نحو غرفة مكتب مزدحمة، وشاب بالغ الأناقة هو مدير مكتب الوزير يقفز مهرولا نحو التابعي.. وقبل أن يحاول الشاب فتح الباب سبقته خطوات التابعى العصبية وهو يجرنى من ذراعي.. ويا له من منظر لا أنساه.. الباشا فؤاد سراج الدين المنجعص خلف مكتب مطعم بالقطيفة الخضراء وفى فمه سيجار بحجم الفأر وفى إصبعه خاتم كالفانوس وأمامه كرشان فخمان.. الباشا عثمان محرم والباشا عبدالمجيد صالح.. هب الثلاثة الفخام العظام فى استقبال التابعى وأذرعهم تفرد نفسها لطويل العناق، ولكن التابعى توقف فى منتصف الحجرة متجاهلا الأذرع الممدودة وانطلق مزمجرا معنفا بكلام خلاصته أن يسمع اعتذارا فوريا على ما جري.. ويا له من مشهد للباشاوات يهدأون الصحفى المنفعل الغضوب.. واهدأ يا محمد.. روّق يا تابعي.. كل هذا وأنا جالس على طرف المقعد منكمشا ومبهورا وذاهلا، وريفيتى المفرطة لا تصدق أن يكون للقلم الصحفى مثل هذا السلطان.. سلطان الكرامة والذود عن التلميذ وبرعم صحفى يتفتح فى حديقة الصحافة الحرة صاحبة السلطة الرابعة.

◙   ◙    ◙

وسألته يوما فى حوار صحفى مطول معه.. الأستاذ هيكل.. عن دموعه فقال لي: «إنه بكى مرتين.. الأولى فى جنازة عبدالناصر، لأنه كان صديقا قريبا منى للغاية، وسيبقى أبدا اعتقادى بأنه ليس فقط إنسانا عظيما وإنما تاريخ عظيم».. والمرة الثانية؟ «عند علمى بوفاة السادات وأنا فى ليمان طرة فى اليوم التالى لمقتله لأننا كنا معزولين داخل الأسوار عزلا كاملا عما يجرى خارجها، وعندما صدرت التعليمات بإمكانية نقل الخبر إلينا أتانا مأمور السجن لينقل لنا نبأ الوفاة على أنها نتيجة أزمة قلبية، فوجدتنى لا أستطيع التحكم فى دموعي».. وبعدها كنت موقنة بأن الأستاذ هيكل كانت هناك المرة الثالثة التى أبكته وذلك عندما أُبلغ وهو فى الخارج بحريق مزرعته فى برقاش عقب فض اعتصام رابعة والنهضة بساعتين بقرار إرهابى من جماعة الاخوان بإعلان ما أسموه بالقائمة السوداء بأسماء الكتاب الذين دعموا الفض، وضمت القائمة اسمه ليشتعل الحريق الذى أتى على كنوزه من الكتب والمخطوطات والمراجع والمذكرات التى بلغت ثمانية عشر ألف كتاب، إلى جانب اللوحات الفنية النادرة التى كان بينها أروع لوحات الزوج الفنان كنعان والتى نزل اقتناء الأستاذ هيكل لها بردا وسلاما على القلب، لأنها أصبحت فى مكمن الحرز الأمين والعرض الجميل، ومن هنا كانت وجيعتنا واحدة عندما التهمت ألسنة نار الاخوان كل غال علينا وثمين.. وعلى ذكر الدموع فقد جعلتها يا أستاذى يوما تترقرق فى عينى عرفانا بالجميل عندما هبط فجأة الأمر العلوى من فوق بإزاحتنا بين يوم وليلة من مواقعنا كرؤساء تحرير، فأزحت القلم والورق، وصورة الغلاف، وحملت حقيبتي، وروحت بيتي، ويمين الله لم تكد تطأ قدمى عتبته، حتى كان الأستاذ على التليفون يواسيني.. يشجعني.. يشد من أزري.. يقسم ألا أحد يهمه غيرى فى كل من استبعد من منصبه، وأن مجالات العمل الصحفى كلها مفتوحة أمامى للتصدي.. ووضعت السماعة ووضعت حمل حقيبتى وصدري، وتنفست الصعداء، فعلى نبرات صوته الذى أسقط دمعى أزحت هما كبيرا كان يقرض سنين العمر ويزرعنى كل أسبوع فى عين الإعصار، وكان لى ميلاد جديد فى صحافة المقال.

◙   ◙    ◙

الدكتور يوسف إدريس.. أطرق يومًا باب مكتبه بجوارى فى الدور السادس لأجد أمام صاحب العيب، والحرام، وبيت من لحم، وحادثة شرف، والنداهة.. أجد صاروخين.. شقراوتين لا تقاومان.. صباح وابنتها هويدا فى كامل لياقتهما الجمالية التى تنسدل فيها على فتحة ظهرهما لحد الوسط شلالات من الشعر الذهبى فهتفت فى الصبوحة: يا شيخة والنبى حرام عليك الدكتور حيلاقيها منك ولا من بنتك.. ويقهقه يوسف ادريس الذى أوصلنى بعربته لبيتى حاملا لى علبة الكعك الذى كنا نشتريه طازجا من كافيتريا الأهرام فودعته شاكرة متوجسة مما سيحمله الغد لنا، فقد كان هناك ردى على ما كتبه بالأمس فى مقاله مبهورا بفتاة الكويت التى تركب الأوتوبيس - وقتها - لتقرأ فى مشوارها كتابا يزيدها ثقافة.. كتب معجبا بالكويتية المثقفة التى تبادل النقاش والحوار وتسوق الحجة بالحجة لتسبق المصرية بمراحل فى عالم اتساع المعارف والثقافة والاطلاع.. اغتظت يومها من الدكتور يوسف فكتبت ردا عليه تحت عنوان «لا يا دكتور» أسأله فيه عن مدى وقت فراغ المواطنة المصرية صاحبة الملاليم المتبقى لديها من بعد مشوارها اللاإنسانى اليومى فى الجرى وراء لقمة العيش وخدمة العيال ومطالب سى السيد والطبيخ والغسيل ورئيس العمل ومواعين الحوض ومذاكرة الانجال وحمام العيال.. سألته أين لها ذلك الوقت المخصص للقراءة والاطلاع والمناقشة والجدل والحوار؟!.. استفسرت منه عن ذلك الأوتوبيس المتحضر الذى تجلس فيه ست الستات منزهة من أى كوع خسيس أو تلامس ضاغط متحرش فى الزحام البذئ.. أين لها من فسحة رؤيا تتطلع فيها من النافذة لتفكر وتفكر بعدما تقرأ سطرا فى كتاب يمشط خلايا نافوخها ويدعوها لوزن الأمور.. أقسمت للدكتور يوسف أنه لو كانت يد البنية بنت النيل فاضية - وهو أمر له ندرته - فلن تفتح بها من غلبها له أو لغيره كتابا تجول بين سطوره، وإنما ستضع يدها تلك على خدها فى وضع المصرية المتوارث المقهور.. قالوا لى فى الصباح إن يوسف ادريس قد أصيب فى مكتبه بأزمة صحية بمجرد قراءته لما كتبته.. وشعرت بمدى إحساسه تجاهى بالإحباط ونكران الجميل بعدما صنع معى بالأمس معروفه، وأوصلنى بعربته لبيتى فى نقرة الحر، فذهبت لاجئة للأستاذ أحمد بهاء الدين اطلب مشورته فنصحنى بطرق الحديد وهو ساخن بالذهاب الآن وفورا ليوسف إدريس للتخفيف من وطأة قسوتى فى ردى عليه.. وأمام باب مكتب يوسف ادريس ترددت مرة أخري، خاصة وأنه كان قد أصيب قبلها بأزمة صحية طاحنة، فهرعت استنجد برجاء زوجته التى أجابتنى بأنه تعبان صحيح، لكنها وهى الحكم العدل أعطتنى كل الحق فيما كتبته وحفزتنى للذهاب إليه.. وكان.. وعاتبنى الغالي.. سيد الفرافير وأبوالرجال المؤمن بنزع ستر الزيف.. ردد على مسامعى رؤيته التى لا تتماشى مع الموقف الحالى من أنه ليس مهمًا إطلاقا أن نكتب فقط، ولكن المهم ماذا نكتب، وماذا نقول للناس، فليس بعسير أن نخرج إلى الناس كل يوم بعمود أو مقال ولكن المهم الكيف قبل الكم والتواجد فى الأسواق وعلى الأرصفة وتحت المانشيتات العريضة.. ولابد أن نسأل أنفسنا قبل أن نكتب: ماذا سأضيف؟!.. وماذا سأقدم.. وهذا ما لا يفعله آخرون يملأون الأرصفة وصفحات الصحف بالكلام الساكت الذى لا يقول شيئا.. نهايته.. أمنت على كلامه مع شعورى بأن كلمات ردى عليه لم تكن ساكتة.. وتصافينا وعادت الضحكة الحلوة المجلجلة تعانق الجدران.

◙   ◙    ◙

ولعله كان الحوار الصحفى الذى أثار ضغينة بعض الزملاء والزميلات ليحولوا الاستاذ ابراهيم نافع رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير من شاكر ممتن للجهد الذى بذلته معه على مدى عشر حلقات رائعة فى «نصف الدنيا» لملاقاتى من بعدها عابسا متجهما لأعجب سائلة له فيتهمنى بأننى كنت السبب فى عين الحسود التى أصابته من جراء ذلك الحوار.. وكان من بين الأسئلة عن موقفه بحكم موقعه من كتاب الأهرام فأجابني: كان المرحوم يوسف ادريس يقول لى ما سرك يا أخي؟ عمرك ما حاولت تنافسنا ككتاب فى الأهرام.. كيف بالله أنافسهم!.. يوسف ادريس أديب عظيم وأنا عمرى ما ادعيت أنى أديب.. وهناك آخرون الشاعر والفيلسوف وأنا عمرى ما كان عندى موهبة أو ملكة الشعر أو الفلسفة.. أنا مجرد صحفى أجرى وراء الخبر، وعندما توليت رئاسة التحرير جاء بعضهم يهمس لي: قل للكتاب بتوع الأهرام يهدوا شوية علشان مايغطوش عليك.. قلت لهم رأيي: رئيس العمل الذى يرأس العمالقة عملاق، والذى يرأس الأقزام يغدو بالتالى قزمًا.. ويكفينى فخرا أنه منذ توليت عام 1979 كان من كتاب الأهرام عمالقة مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ والدكتور لويس عوض والدكتور زكى نجيب محمود ولطفى الخولى والدكتور حسين فوزى والدكتور بنت الشاطئ والدكتور يوسف ادريس وأحمد بهاء الدين وأنيس منصور وعبدالرحمن الشرقاوى وثروت أباظة إلى جانب الدكتور بطرس غالي.. وعدت أسأل: بحكم موقعك منهم.. هل كنت تتدخل بين أقلامهم وأوراقهم؟ فيجيبني: لا.. لست أنا، كل ما بينى وبينهم كلمة سر.. مجرد خط باهت بالقلم الرصاص فقط أضعه تحت ما اعترض عليه من وجهة نظري.. وذلك طبعا ليس للشطب وإنما للمناقشة فيه.. كان المرحوم الدكتور لويس عوض أحيانا يشط شططا كبيرا.. وكان الدكتور يوسف ادريس يقتحم مكتبى كالصاروخ وعيناه تقدحان شررا.

بعدها يغادران ضاحكين فى سعادة غامرة ليقول من يتابع الحالتين والله لا نعرف ماذا فعل معهما ابراهيم نافع ليحول المؤشر للاتجاه المعاكس تماما.. السبب أن الكاتب يكون قد تجاوز فى جزئية أخشى عليه فيها لقربى من المطبخ السياسي.. لست متخوفا عليه لا سمح الله من قهر أو تعنت قد يصيبه، لا والله.. وإنما تخوفى أن يظهر أمام قارئه مخطئا فى بعض المعلومات. أقول له مثلا إن هذا الأمر سيتغير إلى كذا وكذا فى الأسبوع القادم.. أقول له معذرة كاتبنا الجليل أنت قد وصلت فى مقالك إلى نتيجة أبدا لن تحدث ولا أود أن يمس طرف لاسمك الكبير أمام جمهورك بسبب معلومة خطأ.. ويأتى الأسبوع التالى ليحدث بالفعل ما نوهت له به فيشكرنى ومن هنا تولدت نوعية من الاحترام المتبادل بينى وبين هؤلاء الكتاب العظام.

وأسأله وكنا فى سبتمبر 1997 عن ملكية الحكومة للصحافة وتدخلها فى السياسة التحريرية والإدارية؟ فيجيبنى ابراهيم نافع: فى تقديرى أن ملكيتها لازم تروح للعاملين بها، وهذا لايعنى الخصخصة، لأن مين يقدر يخصخص الأهرام؟ كم الثمن؟ ومن يستطيع تقييم 122 سنة تاريخ؟!! اليوم ميزانية الأهرام 1300 مليون جنيه، ويوم ما تسلمته كانت 126 مليون والأصول كانت قيمتها ستة وعشرين مليون جنيه، واليوم تجاوزت مبلغ الـ400 مليون! إذن هناك مؤسسات عملاقة من الصعب خصخصتها لأنها تضبط ميزان السوق، وتمنع التوحش بداخله.

◙   ◙    ◙

وفى بداية زمالتى مع رجاء النقاش مكثت أغار منه لقربه الشديد من الأستاذ أحمد بهاء الدين رئيس تحرير أخبار اليوم وقتها.. كان موقعه فى الحجرة الملحقة لمكتب الأستاذ الذى يقوم إليه فجأة ليحادثه طويلا وعلى انفراد، ثم يعود إلينا ليُلقى علينا ملاحظات مبتسرة تدعونا للمغادرة.. ولم أمكث زمنا تحت مظلة غيرتى من رجاء بعدما اجتمعنا على محبة بهاء، وبعدما لمست فيه الحكاء الذى يجيد السرد ويمتلك ذاكرة تحتشد بحكايا الثقافة وطرائف المبدعين عبر الزمان، وظلت زهور الوداد تنشر أريجها زمنا، لكنى عدت غصبا عنى أغار ثانية من رجاء بسبب اقترابه من نجيب محفوظ إلى حد الجلوس إليه لمدة عام كامل (1990 - 1991) ليسجل معه ما يقرب من خمسين ساعة كاملة على مدى ثلاث ساعات يوميا فى مقهى على بابا الصغير بميدان التحرير بوسط القاهرة ليخرج بعدها بكتابه المذهل الذى حشد فيه الأفكار والآراء الجريئة بل والمثيرة أحيانا التى سمعها من نجيب محفوظ، ورغم اقترابى من صاحب نوبل سنين مديدة على الجانب الآخر حيث خصنى وحدى بجميع أعماله منذ عام 1990 حتى 2000 وكان لى فى مكتبه درج خاص بي، واحتفظ ببعض من خطاباته إلا أننى من بعد أن أهدانى رجاء النقاش كتابه المرجع الفريد عن محفوظ، سامحته وعدت إلى موقعى منه شغوفة أبدا لحلو حديثه وعذوبة نقده وتجليات تواريخه.. واجتمعنا معا على حب محفوظ.. النقاش الذى عاش واقع صحافتنا المحنة وليست المهنة.. مهنة ليست مثل غيرها من المهن، فلا مكان للسن أو الخبرة، وليس هناك من يفرض عليها أن تحقق الراحة والوقت لمن بذلوا فيها جهدا كبيرا أو أضاعوا عمرهم عليها، فأنت فى الجامعة كمثال إذا ما وصلت إلى منصب الأستاذ لا يستطيع كائنا ما كان أن يعيدك فجأة إلى منصب المعيد أو إلى مدرج الطلبة، أو لتقديم صينية القهوة لسيادة العميد، ولكننا فى صحافتنا لا نتهيب من شيء أو نضع فى عيوننا حصوة ملح، فأنت تصل إلى منصب مرموق ثم فجأة تجد روحك خاضعا لقذيفة اطلع لى برة.. فجأة تعود إلى مقاعد صغار المحررين، فلا مكتب لك، ولا تحية لك وربما لا معرفة بك، بل إنك بعد الجهد المرير والعمر الطويل فى خدمة المهنة المحنة قد تجد صعوبة بالغة فى نشر كلمتك والتعبير عن نفسك.. إنها مهنة بلا وفاء لأهلها خاصة من بعد سقوطهم فى جب التعب، وتظل كلمات رجاء النقاش شاهدة على ذلك قالها وهو لم يزل فى الستينيات: «صدقونى إذا قلت إننى أعمل فى الصحافة الآن كما كنت أعمل عندما بدأت حياتى الصحفية وأنا طالب فى الجامعة.. نفس الجهد.. نفس التعب.. نفس المعاناة.. أبدا لم تحفظ لى هذه المهنة قيمة الجهد الكبير الذى بذلته بحيث أجد من حقى أن أعمل بهدوء وبكمية أقل ونوعية أرقى وليس هذا حالى وحدى فهو حال الكثيرين غيري، ألهث فى ساحة العمل الصحفى كما يجرى أى شاب صغير من أجل لقمة العيش!».

رحم الله النقاش وكثير من رفاق درب كانوا من السابقين ونحن اللاحقون.. لحق بعضهم ببعض فى سباق نهاية العمر.. صحبة صحاب صحافة كانت ملحا على مائدة الحياة وبغيابها تفتقر الحياة الآن لانضباط المذاق.. أمشى فى الممرات الخالية فتطل الذكريات من جميع المفارق والمكاتب المعتمة.. تفتح الذكريات نوافذها لتحدق منها وجوه الغائبين الذين زاملتهم وأحببتهم لأمد أصابعى لألمس ملامحهم.. أصافحهم.. أضغط على أيديهم.. نروى حكاياتنا معا..

ويحملنى الحنين الصحفى للبحث عن أعداد الزملاء الآن فأجدهم لا يتعدون الـ3351 تبعا للهيئة الوطنية للصحافة من المؤكد أن ربعهم وأكثر قد قارب سن التقاعد وفاضله خطوة مرتعشة، وأن الشغيلة الباقية التى تدوّر الماكينة بلا ضخ دماء جديدة، فإذا ما وزع الرقم على حاله وأحواله على عدد السكان البالغ 120 مليون نسمة لكان هناك 30 صحفيا لكل مليون يحاولون معه المستحيل لإعادة خصلة قراءته للصحف، بينما على سبيل المثال فإن الولايات المتحدة ذات الـ341 مليون نسمة لديها 145 صحفيا لكل مليون وفى الصين صاحبة المليار والـ400 مليون لديها 159 صحفيا لكل مليون.. وهذا يعنى بالضرورة احتواء تلك الباقة التنويرية المصرية الصغيرة والتعامل مع أفرادها المحبطين بمعايير خاصة للغاية وبجدية بالغة الشفافية ورؤية متفهمة لطبيعة الجوهر وندرة الصنف الذى يمارس المهنة على الطبيعة بين أنفاس الحبر والورق وإيده فى النار وليس على السبورة وداخل أكاديمية محاضرة، وللعلم - ليس إلا - أنه فى أحدث استطلاع رأى لنقابة الصحفيين عام 2024 اتضح ما هو آت أن هناك 72% من الصحفيين يعيشون على أقل من الحد الأدنى للأجور المحدد من الدولة بـ6 آلاف جنيه شهريا مقابل 28.2% يلامسون الحد الأدني.. رجاء.. احتواء.. رجاء.. حسن معاملة.. رجاء.. الصحافة سلطة رابعة.. رجاء الكثير دخلوا السلك الشائك لجينات عشق الصحافة.. رجاء.. حتى لا تطوى جميع الصفحات.

التعليقات