السلطة الرابعة (3)

السلطة الرابعة (3)

سناء البيسي

نظرا للسن الكبيرة، ونبضات قلب كل واحدة فى ناحية، ودبيب أقدام ثالثها عصاة، ودماء هادرة لا ينعدل ضغطها بلا قرص دواء، وثقب نارى فى فم المعدة يفوق ثقب الأوزون، ومعدل عام لابد فيه من أجل دوام زفير ما بعد الشهيق من دوام الاستعانة بطبيب.. من هنا كان ولابد من ترك باب حجرة النوم على مصراعيه مفتوحا ليل نهار للمتابعة والتدخل السريع وهرولة الإنقاذ.. وكثيرا.. بل بصفة مستمرة استشعره.. فى غفوتى ماثلا أمامى فجأة.. ما هو الباب المفتوح.. نجلى العزيز.. يعطيه العافية.. يراقب انتظام أنفاسى وإحكام غطائى وصحة وضع رأسى فوق تضاريس المخدة الطبية.. أقلق.. أفوق.. أصحو.. أخرج من أحداث فيلم أبطاله جوقة جميع الموتى السابقين واللاحقين ليقظة حتمية تفرقهم إجباريا ليسألنى الحاضر الغالى بمنتهى المنتهى من الحنان: ماما.. إنت نايمة؟!.. أيوه يا روح ماما.. ومن بعدها حبال ساعات مشدودة بين أسنة رماح الكون، بجفون مبحلقة ونوم مستعصى، وأوضاع لا تريح، وآلام بغير منطق، وأضغاث لا تمحوها يقظة، وذكريات معلقة في سقف الذهن، والشقيقة الراحلة تهمس فى أذنى، والمرحوم بكامل رونقه يملأ فراغ الباب، وقلمى يتدحرج للركن البعيد، وأرق جلمود صخر حتى مطلع الفجر.. ماما صليتِ الفجر؟ ما هو الباب مفتوح!.. أيوه يا روح ماما.. ويأتى النهار المستباح بطوله للجميع.. ما هو الباب مفتوح.. وحقيقة في الشباب كل الأبواب تفتح للخارج، وفى الشيخوخة كلها تفتح للداخل، وأنت إذا ما أغلقت الباب على الحزن فكيف يخرج من قلبك؟ وإذا ما أغلقته أمام كل الأخطاء فسيتم إغلاق الحقيقة، وإذا ما بالغت فى التخطيط فأنت تغلق الباب أمام الاحتمالات، وإذا ما كانت الست قد غنت يومًا: «على باب مصر تدق الأكف ويعلو الضجيج، رياح تثور، جبال تدور، بحار تهيج، معجزة مالها أنبياء؟ دورة أرض بغير فضاء» فعلى بابها ينصت الجمع إعجابا وتوقيرا للمطربة المعجزة، بينما يتحذلق المنتفخ الجديد مدعيا الواقعية فيتجاسر في وصفه لكوكب الشرق فى حديثه للقديرة لميس الحديدى – من أبدت استياءها مرات من سيجارة الفيلم غير البريئة – بقوله المنكر المستنكر: أم كلثوم كانت واحدة حرشة!!!

                                                     ◙  ◙  ◙

سياسة الباب المفتوح تلك عاصرتها فى عالم السلطة الرابعة بلا أرق ولا قلق ولا تقدم بالعمر.. كانت حاجة طبيعية خالص لدى البعض من رؤساء التحرير الذين عملت معهم وعلي رأسهم الأستاذ موسى صبرى فى أخبار اليوم.. من كان يكتب مقاله الخاص لجميع إصدارات المبنى تبعا لنوعية قرائها، بينما حجرة مكتبه بالدور الأول غاصة من حوله بالوافدين من الصحفيين والإداريين والعمال والزوار، وأى واحد فى المبنى أو قادمًا من الخارج طالبا مقابلته تشير له السكرتيرة الخاصة ببساطة تدعو للعجب تجاه بابه المفتوح: ادخل له.. وندخل له.. ويرفع عينيه عن سطوره ليستمع ويناقش ويوافق ويوقع، وقد يثور ويشطب ويهدد ومن بعدها يعقب بابتسامة تمحو آثار غضبته ليعود ليكمّل من بعدها ما توقف عنده القلم السيّال الذى امتد عطاؤه لأكثر من نصف قرن.. قلم كاتب أمواجه جامحة تطل هادرة تصفع الشاطئ بزبد الغضب، فإذا ما نالت من خصمها انحنت حنونا تلثِّم أقدامه تغسلها بدموعها وتعود خجلى تجاه الأغوار البعيدة، ولا يبقى من المعركة الصاخبة سوى الشاطئ المهجور.. القلم البتار كالسيف، صاحب الحجة التى يصعب على الكثيرين دحضها، صاحب القدرة الخاصة على قول كل ما يريد قوله، وفى خصومته لم يكن يعبأ كثيرا بالجراح، المهم أن يكسب معركته تحت وهج الشمس وفى ضوء النهار وتحت مجهر الأنظار، وبعدها مرحبًا بالندم أو الاعتذار أو الانسحاب.. القلم الذى سطر أهم خطاب ينبض بكرامة الوطن ليُلقيه الرئيس السادات في قلب الكنيست الإسرائيلى داعيًا للسلام ومُطالبا بالحقوق المشروعة للفلسطينيين.. القلم الذى اخترع شخصية الصحفى «محفوظ عجب» وقدم للسينما «دموع صاحبة الجلالة».. القلم الذى تمنى صاحبه أن يموت نائمًا، وأن يكتب على قبره ولد صحفيا ومات إنسانا.. القلم الذى خرج بعد تجربة صحافة الخمسين عاما في مصر بأننا فى مواقع مسئوليتنا عابرون لا مخلدون، زائرون لا وارثون، محكومون لا حاكمون، نرعى الأمانة نسلمها لا لنستأثر بها، فالعمل الصحفى وظيفة اجتماعية للتأثير والتطوير والاشعاع، لا إقطاع فردى للاستغلال والمتاجرة والميراث.

قلم معلم صحافة يحترم الموهبة ولا يغار منها، بل يسعى بجهد خارق إلى إبرازها، ويقدّر من يخالفه في الرأى، وأبدًا لم يلحق أذى بمن يخالفه أو يضغط عليه أو يستقطبه أو يمالئه أو ليحيد عن رأيه، وعقيدتى فى الأستاذ موسى أنه كان يكن احتراما وإعجابا عميقا خفيًا لمخالفين في الرأى الذين يثبتون على وجهة نظرهم، بل تلمح فى حديثه إعجابا بالبعض من ذوى الصلابة وكأنه يتمنى أن يكون موضعهم ليتمتع بالموقف الشامخ الرافض، حتى أنه كان أول رئيس مجلس إدارة لم يعترض علي إعارة الصحف الحزبية المعارضة رؤساء تحريرها بين تلامذته فى أخبار اليوم، وكانت جميع صحف المعارضة تلك تُطبع فى مطابع الدار التى تحتفظ بسرية كل كلمة يقومون بكتابتها، وفى أتون ذكرياته قوله: «كانت الحجرة التى تجمع فيها جريدة الأهالى بجوارى مباشرة، أى أن ما بيننا مجرد باب من ورائه جريدة تكيل لى الشتائم، لكنى لا أسمح لنفسى بطرق الباب أو فتحه عنوة للاطلاع على أى من البروفات، وفى إحدى المرات تأخر صدور الأهالى وعلمت أن بعض العمال كانوا يريدون تأخيرها وتسببوا فى ذلك بدافع نفسى، فذهبت للمطبعة وسببت لهم أزمة هناك، وقمت بتأخير طبع الأخبار لتطبع الأهالى قبلها..

وتكتب الأهالى عند وفاة موسى صبرى إنه كان خصمًا عنيدا شريفا يكتب ما يؤمن به، ويدافع عنه إلى النهاية دون وجل.. ورغم وزنه الصحفى والأدبى والاجتماعى لم يرتزق ولم يتربح وظل كاتبا وصحفيا نزيها ومعلما لأجيال من الصحفيين.. الأستاذ المعلم من ظل حتى رحيله يسكن شقته الصغيرة بالزمالك المكونة من ثلاث حجرات ضيقة ليس بها مكتب، فاستعان بصديقه المهندس الدكتور ميلاد حنا ليقفل له الشرفة لتغدو حجرة صغيرة للأنجال، ولو شاء موسى، ولو فتح موسى الباب من خلال موقعه لكانت له إحدى شقق الحراسة والكياسة كما رأينا غيره وأقل منه فى المراتع والقصور.. ومازلت أذكر ما همست لى به الصديقة الراحلة أنجيل رياض زوجة موسى صبرى زميلة الدراسة ثم العمل فى أخبار اليوم من ثورة زوجها الكبرى عند عودته من إحدى رحلات العمل لوجود جهاز تليفزيون كبير هدية من الوزير منصور حسن، حيث سارع على الفور يطالبه باسترداده على الفور صارخا: الصحفى مثل القاضى لا يقبلان هدية من أحد.

وعلى نهج الباب المفتوح كان مكتب على أمين في الدور السابع من أخبار اليوم من تدفع بابه فى أى ساعة لتصطدم بأكثر من واحد وواحدة داخلين خارجين شاردين يطالعون أوراقا بين أيديهم، وبجوار البك وما بين كرسيه والحائط لابد هناك من صحفى مشغول عنا وعنه فى حديث طويل بالتليفون الخاص.. وأذكر لشقيقه التوأم مصطفي أمين صاحب الدار، ومنشئ الجرنال الذى بلغ توزيعه يوما المليون، ورئيس تحرير كل إصدار، إنه بعلو شأنه وذياع صيته، ورفعة مركزه، كان يخرج لوداعنا، ونحن لم نزل فى سنة أولى جامعة من خلف مكتبه، وباب غرفته، حتى باب الأسانسير.. الشقيقان مصطفى وعلى أمين من جعلا من لفظة «برافو» المُشجعة في عالم الصحافة تخترق ببسالة جميع السدود.. الكلمة السحرية التى تملؤك بنشوة ثقة بالغة لتنفذ فى الحديد، لتغدو بمثابة جواز المرور لك من جميع الأبواب الموصدة.. الكلمة التى جعلت من تلامذتهما فى كل مكان عشاق صحافة.. نصحو صحافة ونأكل صحافة وننام ونقوم ونسهر ونحب ونتزوج ونتنافس ونلهث ونفرح ونبكى ونجرى ونتعثر وننكسر ونلتئم ونخربش ونهادن صحافة، ونستنشق عبير برافو جديدة من على بك ليرددها لنا من بعده مصطفى بك لتكون وصيتهما الأخذ بمبدأ التشجيع والثناء على غيرنا إذا ما وجب الثناء، حتى لأذكر ولم أزل تحت التمرين أن على أمين قد أوصى موظفى استعلامات أخبار اليوم بأن يخبروه بقدومى يوما فى الصباح ليشير لى أحدهم بالرد على تليفون باب المدخل، فهرعت متعجبة لأجد على بك بذات نفسه يخاطبنى من مكتبه العلوى بصوت متهلل: «شفتها وأنا فى إيطاليا.. برافو.. ولم يكن ما رآه الأستاذ الجليل وهو خارج البلاد سوى رسم صغير «موتيف» لا يتعدى حجمه والله العظيم السنتيمتر قمت برسمه بين فقرات يوميات العقاد فى الصفحة الأخيرة من الأخبار.. وتقولوا لى ماتفدوش بلاط صاحبة الجلالة بأرواحكم، وتقبلوا بابها وشباكها وحروف طباعتها وحبر ورقها، وتسيروا على خطى مسيرة التشجيع، والكلمة الحلوة، والأخذ باليد والمساندة والتذكر بأنك بالأمس كنت مكان من يقف اليوم على بابك يرجو منك نظرة إلى عمله..

ولأننى نشأت وترعرعت فى مناخ الثناء والتشجيع بنتاج عملى وإنجازات الآخرين، مؤمنة بأن نجاحاتنا جميعا بمثابة اللافتة المضيئة التى نزهو كلنا بها، من هنا ما أن انتقلت للعمل بالأهرام من بعد تأميم الصحافة سارعت بإبداء إعجابى للزميلة ليليان مرقص على حوارها الشيق مع أم كلثوم فى ملحق الأهرام، فوجدتها متعجبة بل وشبه مذهولة من هذا الثناء، وسط برودة صمت مطبق من الآخرين والأخريات، وكأنه شىء عادى جدًا جدًا الجلوس إلى ثومة، وفى أى وقت نشاء!!! وعاهدت نفسى ألا تصيبنى عدوى الوجه الجبس، والإعجاب الأصم، والثناء السجين، والبرافو الراقدة فى الأغوار.. وانطلقت فى مسيرتى احتضن الموهبة أطعِّمها بعضشى سكر لتأتينى بالشهد المكرر، كما علمونى صغيرة.

وكان على الدوام بابه مفتوحا أشهر وأمهر وأنجح مدير إعلانات.. الراحل عبدالله عبدالبارى الذى لا أطرق له بابا بل أدخل وأجلس أمامه وأجده ماثلا قبالتى على الجانب الآخر لكنى لا ألقاه ولو قبعت مكانى لساعات، فالرجل بمجرد هز رأسه ناحيتى بإيماءة ترحيب أكون قد تلاشيت تماما من ناظريه فى خضم أذرع أوراق التوقيع وطلبات الوافدين واجتماعات المندوبين واستدعاءات رئيس مجلس الإدارة وهزاره عبر الأسلاك مع صديقه عثمان أحمد عثمان، وهنا لابد من أن أسجل إعجابا تاريخيا بالذاكرة الفولاذية لاحتياجاته الألف اللحظية المسددة صاروخيا لسكرتيرته المتفردة مشيرة وترتيب أولوياتها وتعجيل إنجازاتها: كلمى لى واكتبى لى وحضرى لى وجهزى لى واحجزى لى ورتبى لى وإلغى لى وهاتى لى وماتنسيش يا مشيرة فاكسات لندن وطرود باريس والترزى والسوق الحرة ومدارس الأولاد والمقاولين العرب والصفحة الأولى وتذكرة طوكيو وراس عامود الوفيات وورد المستشفى والوفد الأمريكانى اثنين منه نباتيين، وشوفى لى مواعيد قطارات زيورخ وخدى الدوسيهات فى إيدك ونادى لى على السواق وهاتى لى كشف بأعمدة نور الاعلانات فى إيتاى البارود..الخ، وكنت أرد على ابتسامة الأستاذ عبدالله بعدها باقتضاب بعدما أدلى برأيه أمامنا بأننا كلنا كده على بعضنا لا نساوى شيئا بدون إعلانات، ولابد للصحفى من أن يكون مصدرا للإعلان لضمان نجاح إصداره..

الأمر الذى كان يخالفه تماما الأستاذ هيكل، فعندما قمت فى أول عهدى بالأهرام برسم مساحة الإعلانين المتقابلين فى الصفحة الأولى استدعانى يلومنى ويوجهنى بأن ريشة التحرير لها قدسيتها ولا يجب الهبوط بها لرسم الإعلان، وكانت سياسته التى حرصنا عليها – وقتها – لظهورنا بالصورة المترفعة للصحفى الحُر مندوب صاحبة الجلالة وصاحب المرآة العاكسة للسلطة الرابعة عدم الكتابة لأى جهة ما خارج الجرنال، أو تقديم أيتها برامج للإذاعة والتليفزيون، فكل له ناسه وطاقمه ومعداته ومصطلحاته ورئاسته وسياسته ونقابته، والصحافة شىء وعالم الميكروفون والتليفزيون حاجة تانية خالص.. وعشت وشفت بعدها بسنوات كيف لم يتربع على الشاشة الصغيرة ومن وراء الميكروفون أكثر من الصحفيين ممن مارسوا ويمارسون العمل بها - بل لقد كان الأستاذ هيكل ذات نفسه من بعد طفرة الانفجار التكنولوجى للإعلام نجما لأشهر حوار تليفزيونى امتد على حلقات طويلة لم تزل فقرات منه على المواقع تٌحدث فارقا حضاريا وسياسيا وثقافيا وتاريخيا - وفى المقابل أيضا اتسعت الصفحات لكتابات المذيعين والمذيعات لتغدو الصحافة باسبورًا لإثبات الذات وتسيد الصورة فى المجتمع بعدما غزتها جميع الطوائف، فالدكتور والعالم والباشمهندس والصيدلانى ورجل الأعمال والمحامى والقاضى والخبير الغذائى ومحلل الفتاوى والحكاوى والوزير والسفير كلهم كلهم نفسه رايحة لحاجة واحدة مافيش غيرها.. الوصول للناس لأجل يقول لهم أنا هنا.. مقال يكتبه بنفسه أو يكتب له تبعا لنظرته لذاته.. عامود يذيله بلقبه بحروف الطباعة.. انشالله بوكس صغير فى ذيل الصفحة. ومن هُنا أسفت ودهشت للعالم الطبيب الجليل الكبير ذائع الصيت عندما لاحظت مكوثه الطويل وأنا رايحة وجاية قابعا فى حجرة السكرتارية فى انتظار السماح له بلقاء رئيس التحرير للسماح له بكتابة رأيه السياسى على صفحات الجرنال أسوة بالكثير من زملاء المهنة..

لكنها كانت هوجة وموجة انتهت أو كادت بعدما فتحت وسائل التواصل والمواقع والبرندات أبوابها ليغدو قول الشاعر حافظ إبراهيم من باب الهزار: «لكل زمان مضى آية، وآية هذا الزمان الصحف»، وليعد من باب التخاريف ما قاله القلقشندى صاحب كتاب «الأعشى فى صناعة الإنشاء» عام 756هـ «حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة ووفقكم وأرشدكم فإن الله عز وجل جعل بعد الأنبياء والمرسلين، وبعد الملوك المكرمين أصنافا، فجعلكم معشر الكُتاب فى أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءة، والعلم والرواية، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التى بها يسمعون، وأبصارهم التى بها يبصرون، وألسنتهم التى بها ينطقون وأيديهم التى بها يبطشون، فليس أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخِصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكُتاب»، لكننا نحن الصحفيين مازلنا مثابرين مجاهدين رافعين شعار أن الصحافة نسب، أى أن أصحاب الأقلام عيلة واحدة تجمعهم صلات الدم، ومن ثم لابد لهم من وقفة واحدة على باب الله يعلنون فيها لزوم التطوير كى لا يزهد القارئ فى صفحاتهم التقريرية، ويفتح على الموبايل المتابع المتوثب ذى الألف وجه ورأى وخبر وبرند وجروب وتعليق وقلب إعجاب وصباع لفوق تمجيد ولتحت إنكار، وللعزاء وجه يبكى، وبوكيه ورد للتهنئة، وكفين مرفوعين هندى علامة امتنان، وتورتة مهتزة فى عيد الميلاد، ولاختصار الوقت للتعبير عن الغضبة سحنة عادل إمام فى فيلم «الإرهابى»، الخ، لابد من التطوير الذى طرقنا بابه بالفعل بجدية ومسئولية واستماتة الإنذار الأخير، لنضع سياسة وصياغة جديدة نأمل أن تجد صداها لمن تُرفع إليه لتظهر بصمتها قريبا على صحافتنا، لنشهد طفرة إيجابية واعية نلمسها الآن على أرض الوطن فى المجالات المختلفة من التعليم إلى التعدين كى لا تقفل صحف أبوابها، وتزداد هجرة القراء، وتدمج مجلتين فى مجلة سعرها نار، ويعادى الابن الجرنال، ويطول طابور صحفيي محلك سر، وتتصخر دفعات المئات من خريجى الصحافة الممنوعين من الإعراب، وتعلو شكوى الإملاق تقابلها نبرة التعالى المعايرة بالإغداق رغم رحيل موارد الإعلان، وتأخير مكافأة آخر المدة، وسيادة الممنوع بلا نص، فممنوع مهمات السفر وممنوع المواصلة وممنوع التثبيت وممنوع مكاتب العواصم وممنوع الاستضافة وعزومة الضيوف، هذا إلى جانب ندرة المعلومات وحديث المسئولين الذى أصبح من وراء حجاب.

فى خطة التطوير لابد من إعادة التأهيل والممارسة على أرض الواقع وتنشيط الأذهان وزيادة المعارف وتبادل الخبرات واتساع دوائر الاتصال وقياسات الرأى العام، وتنويع المصادر ورصد الاتجاهات، وغربلة الشائعات، ومتابعة الحدث، وذكر الحقائق بلا تنويهات أو تشبيهات أو إسقاطات، وتجويد اللغة، وتجريف الزيف، وتأصيل القيم، والنزول إلى المواقع والرجوع إلى المنبع حتى بلوغ المصب، وإعطاء كل ذى حق حقه، وخروج المسئولين للعلن، ورفض التصريح على فم مندوب معالى الوزير، ومناصرة التعمير، وتسليط الضوء على جماليات التغيير، بالحجم المنضبط المطلوب، وليس تبعا للاتجاه المستشرى لحيازة أولية موسوعة جينيس «أفشتع فشتعون» أى الأكبر والأعلى والأوسع والأثرى والأضخم والأفخم والأوحد عالميا..!

                                       ◙    ◙    ◙

وفى عالم أبواب الصحافة تتسيد شخصية السكرتيرة اللمبة الحمراء البشرية، ربنا يجعل كلامنا خفيفا عليها فكم كان البعض منهن بمثابة العقبة الكؤود فى طريق النجاح والفلاح وشق الطريق للسبق الصحفى إذا ما أتيحت لنا الموافقة ممن فى الوراء، فتصريح الدخول إلى هذا الوراء المغلق بالضبة والمفتاح يقع فى حوزتهن تبعًا لمزاجهن وتقييمهن ونظرتهن تجاهك.. مع سكرتارية الأستاذ هيكل لمكتبه بالأهرام كانت تبوء جميع جهودى بالفشل لملاقاته، ويعلم الله أننى كنت أحاول وأحاول باكرا وظهرا وفى أوان الضحى وقبل الاجتماع وبعد الاجتماع، لكن إجابتها الجاهزة المعلبة التى تأتينى مع محاولاتى تباعًا هى: الأستاذ مشغول.. ويحدث أن لاقيته مصادفة على السلم فطلبت منه شخصيا موعدا فأعطانيه ببساطة غدا فى الواحدة.. ودخلت عليها.. قالت لى مش ممكن. استحالة. عنده اجتماع. بيكتب مقاله. بيراجع البروفات. بيشوف العناوين. على التليفون مع الرئيس. نازل وطالبين له السواق.. أبلغتها وكلى ثقة ومشاعر رد اللكمات بأنه بذات نفسه من أعطانى الموعد، وساعتها لم تجادل كثيرًا بأين ومتى وكيف بل حدجتنى بنظرة المكواة المولعة لتشاور لى بطرف اصبعها: ادخلى.. ودخلت وجلست وسمعت له وشرحت له ولن أنسى دورانه يومها فى مقعده اللولبى الجلدى محملقا فى سماء زجاج النافذة قائلا بفخر إن جميع كتاب ومفكرى مصر والعالم العربى قد فتح الأهرام لهم باب صفحاته مع اختلاف توجهاتهم وآرائهم، وحقيقة كان فى كل صفحة ودور ومكتب كاتب وشاعر مختلف ومنهم كلوفيس مقصود ونعيم بسيسو ونزار قبانى وفدوى طوقان والطيب صالح وسامى الدروبى وفؤاد مطر وأهداف سويف وإدوارد سعيد وأدونيس وغيرهم.. وكان الاختلاف جليًا بين سكرتارية الأستاذ فى مكتب أهرامه ومكتب منزله حيث تقودك فى الأخير ابتسامة منير عساف المرحبة إلى نعيم التلقى والمعرفة.. وبحكم عملى المُستدعى دومًا ملاقاة مديرى ورؤساء التحرير قعدت ياما مضطرة مع سكرتيرات الباب المغلق نرغى فى الفاضية والمليانة ونحكّم الزيادة والنقصان فى مؤشر الميزان والراجل فى الداخل طالبنى على عجل، وقد آمنت بأن الفارق بين الرجل السكرتير والأنثى السكرتيرة يأتى تبعا لتدخل الزوجة من البيت لمن يرعى شئون زوجها فى الغيط، ولقد كانت هناك واحدة منهن تقول له أمامنا قبل ما يترك المكتب للاجتماع لا إله إلا الله فيرد عليها محمد رسول الله، وسكرتيرة يكتشف بعد غفلة من يجلس وراء الباب أنها أدخلت خمسمائة خط تليفون جدد لأقاربها ومعارفها وأصحابها مستخدمة اسم سيادته، وذلك عندما سأله مدير السنترال على الله تكون كل الخطوط سليمة وسالكة يافندم؟! وكان من المحال تواجد سكرتيرة الزميل الراحل محمد زايد في مكتبها، فغالبا تكون هى والحارس والسائق والزملاء والأقرباء والضيوف داخل الباب حول الأستاذ المشهود له بالكرم يتشدقون بالطعام ويحتسون البارد والساخن ويُدخنون أنواع السجائر المسجاة فى الطفايات، ويشير لهم زايد طالبا الهدوء كى يستطيع سماع ما يمليه عليه سيادة المحافظ...

ورغم دقة عمل سكرتيرة مدير عام الأهرام الراحل على غنيم وسرعة استجابتها للقائه، فإنك ستفاجأ عند الدخول إليه بباب سد آخر فى مواجهتك عبارة عن جبال من الدوسيهات راقدة من أمامه فوق المكتب وعلى جوانب الأرض حتى أننى فى كل مرة أصعد إليه يتملكنى السؤال فيما إذا كان هذا المظهر تقصيرا منها أو منه للاطلاع على المحتوى وإيجازه وتوزيعه أو حتى تمزيقه، وفى خضم القول ملاحظة عدم وجود السكرتيرة للكثير من الأدباء فأنت تطرق الباب لتدخل مباشرة ليلاقيك الدكتور يوسف إدريس وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وبنت الشاطئ وفاروق جويدة وصلاح طاهر وعبدالرحمن الشرقاوى، بينما تجد الراحل جلال الدين الحمامصى خارج نطاق أى باب متجولا فى الأقسام وردهات المطابع مرتديا أكماما إضافية سوداء تخوفا من سواد الرصاص، هذا وقد راعى الأستاذ هيكل أن تكون حوائط صالة التحرير- بساعاتها المنضبطة على توقيت عواصم العالم جميعها - من زجاج كاشف بأبواب متلاشية ليبدو دولاب العمل الصحفى الخلاب على الطبيعة فى أوج نشاطه والتحامه، ولمراقبة انضباط سير العملية الصحفية الجراحية حيث لكل طبيب موقعه ولكل شريان مساره ولكل ورم مشرطه، لكن تلك الشفافية أصابت يومًا الكاتب محمد سيد أحمد بشبه ارتجاج عندما مشى منحنيا يقرأ ما فى يده ليدخل فى الزجاج.. أما عن حجرة مكتبى بالدور السادس التى شاركنى فيها كل من الفنان يوسف فرنسيس والكاتب أحمد بهجت فقد كان لبابها معى حكايات وذكريات منها عندما دخلت منه أم كلثوم – فى جولتها لجمع التبرعات للمجهود الحربى – ومن حولها رجالات الأهرام يطوفون بها أرجاءه وعلى رأسهم الأستاذ هيكل ونجيب محفوظ وصلاح طاهر وتوفيق الحكيم الذى استطاعت الحصول منه على تبرع ضخم، ومن خلال ذلك الباب لم يكن يمر يوم دونما يدخل علينا يوسف فرنسيس وبصحبته أحد مشاهير النجوم حسين فهمى ونجاة وإلهام شاهين ونادية لطفى وفؤاد المهندس وشادى عبدالسلام...

ومكثت لفترة يدخل فيها من الباب الكاتب الزميل أحمد بهجت للجلوس إلى مكتبه المثقل بخطابات القراء التى لا تفتح، وفى أعقابه تنزلق أسرة كاملة لرجل وزوجته وأبنائه الثلاثة الذين يجلسون لساعات على الكنبة الجلدية إلى جواره يتناولون المشروبات ويتهامسون فيما بينهم وينعسون لفترات، بينما بهجت لا يعير أيًا منهم انتباهًا، ولا هم يوجهون إليه سؤالا، وقبل غروب شمس النهار بساعة بالتمام ينتفضون مغادرين مغلقين الباب بصوت عال من خلفهم، وأحمد بهجت فى شغل شاغل عنهم، وكثيرا ما أحرجنى موقعهم وموقفهم المتلاشى فكنت أجاذبهم بين حين وحين حديثا مقتضبا أو ابتسامة بلا معنى أو السلام عليكم.. ووجدتنى يومًا بعد ذهابهم أطرح سؤالى المُلح: بهجت مين دول؟!.. فأتتنى إجابة اللامكترث.. دول ابن عمتى ومراته ضيوف من البلد وقاعدين عندى يومين وقلت لهم لما تزهقوا حصلونى ع الشغل.. ساعتها آمنت إن باب مكتبنا مفتوح على أودة المسافرين!

وعلى باب مكتبه فى حجرة سكرتيرة الأستاذ أحمد بهاء الدين لاحظت فى إحدى المرات طول انتظار المخرج يوسف شاهين حتى أننى ذات نفسى شعرت بالحرج، فدخلت لألفت نظر الأستاذ فوجدت عنده علمًا بذلك، ومما زاد من عجبى يومها أن أكثر من واحد وواحدة من أسرة الأهرام كانوا يدفعون الباب خارجين داخلين مثلى فيجيب طلباتهم، ولكى يخفف من وطأة استنفارى الصامت قال لى إن أبناء الأهرام لهم مطلق الحق وفى أى وقت لملاقاته، لأنهم أبناء الدار ولدى غالبيتهم أسبابا جوهرية لسير دولاب العمل، أما من أتى على غير موعد فعليه الانتظار خارج الباب! وعندما كان الأستاذ أحمد بهاء الدين رئيسا لتحرير أخبار اليوم ألقى علي كاهلي الهش مسئولية كتابة صفحة كاملة أسبوعية بموضوعاتها المتنوعة وأنا لم أتخرج فى الجامعة بعد، وأحسب أننى أجدت بعدما اجتهدت ولكننى لم أنل منه بكلمة تشجيع، وكنت ألملم إطراءه لى من فوق شفاه الآخرين.. يلاقينى أستاذ بهاء كمن يتعجب لحضورى بل وجرأتى على اختراق صومعته، فلا يصدمنى إطار الجمود، حيث لا تظهر ملامح وجهه الجاد سعادة بلقاء، أو انتظارا له أو العناية فيما إذا لم يحدث من الأصل، حتى أننى بقيت لفترة طويلة أشعر بأن من واجبي المبادرة فى كل مقابلة بذكر اسمى ولقبى ونوعية عملي معه، هذا رغم أننا فى اللقاء السابق أخذ يقول لى وأنا أقول له ولم نخلص من الكلام كله، ولقد أصبحت من قراءتى لطبيعته على علم ويقين بأنه يعطى أذنه وتركيزه وترحيبه لشخص واحد فقط، وأنت يا ابن آدم تظل مجنبا خارج الإطار إذا ما حاولت اختراق دائرة الاهتمام المغلقة على من سبقك إليه.. أحمد بهاء الدين منشئ فضيلة الاصغاء الذى يحسن الاستماع كما يجيد النصح، واللقاء معه إذا ما حزته يختصر كل المسافات لتجده معك بالكامل للعثور من أجلك على خيط الحقيقة بين خيوط الغزل الحياتية المتشابكة..

وأذكر يومًا تحريضه لى بالذهاب دوما للمتحف المصرى والكتابة المتوالية عن دقة فنون صياغة الحلي الفرعونية وتناسق ألوان قلادة حتشبسوت وعطور الملكة تى ونفرت ونفرتيتى.. ويحادثنى فى رحلة الذوق ليقول إن أكثر ما يفزعه أن يزور بيتا فيجد فى حجرة صالون صغيرة ثلاثة أفيال ضخمة مذهبة متزاحمة لا تفسح مجالا لزائر ولا حتى لقط صغير أن يتحرك فيها وكان يقصد الفوتيهات المذهبة.. كان يحفزنى للكتابة عن شقة العرسان الجدد التى تتكون من حجرة واحدة ومطبخ وحمام، وقال إن أكثر العقد النفسية انتشارا فى مصر هو استمرار خيال القصور فى الشقق الصغيرة، فالجمال فيه عناصر التناسب بين المكان والزمان والحجم والاتساع والارتفاع، والقبح يمكن تعريفه بأنه انعدام التناسب.. أستاذ بهاء كانت علاقته بالفن أنه فنان وليس مقتنى فن، ومن أقرب هواياته الإخراج الصحفى، فكنت تراه يخرج من جيبه بين وقت وآخر ماكيت صغير لصفحات الجرنال يخطط ويرسم عليه شكل الصفحات ومكان الاعلانات وتقديرا لحجم المانشيتات، ومازلت أذكر رغبته الشديدة التى أسرها لى فى أن يستعيد لوحة - مطبوعة - اقتناها من أعمال فنانى الحملة الفرنسية لمصر القديمة تركها معلقة فوق مكتبه عندما كان رئيسا لتحرير الأهرام فى الدور الرابع الذى كان يشغله وقتها يوسف السباعى، وكان الفنان الدقيق يكتب كلماته الدقيقة بالحبر الأخضر علي مربعات من الورق الأصفر فيغدو مقاله وقراره وإذن السفر والتلويح بالزعل بمثابة لوحة من فن منمنمات الشرق الآندلسية.

وأطرق بابه أطلب منه تعضيدا لموقفى فى ترشيح نفسى لمجلس نقابة الصحفيين وكانت الزميلة أمينة شفيق هى المنافسة الوحيدة أمامى، فما كان من أستاذ بهاء إلا أن سلخنى على نار هادئة شارحا لى دور أمينة المعروف نقابيا وما يمثله تاريخها المشرف فى العمل النقابى، إلى جانب أنها تضمن جميع أصوات الصحفيين من حزبها التى تحشد تلقائيا ولو كانت أمينة فى مهمة خارج البلاد أثناء إجراء الانتخابات – وهذا ما تم بالفعل – وأيضا لأن مبنى النقابة يقع تحت بيتها أى أنه جزء من حياتها العامة والخاصة.. سألته بعد دفاعه الانفعالى الحاد وموافقتى على كل ما قال بل وفى إمكانى الزيادة عليه، عما إذا كان سيعطينى صوته، فأجابنى بتكشيرته الحنون: أيوه.

ودخلت يومها من باب النقابة ناجحة في الانتخابات باكتساح.. وتمضى السنون وتمنح نقابة الصحفيين هذا العام 2025 أمينة شفيق سيدة العمل النقابى والصحفى جائزتها التقديرية.. ألف مبروك خالصة مخلصة بلا شوائب انتخابية قديمة مع الاحتفاظ بنظرية أنه لابد للبطولة من ترك ميدان نجاحاتها.. ولو مرة.

التعليقات