لفترات طويلة جرى التعامل مع قضية تغير المناخ وحماية البيئة باعتبارهما مسألة علمية تناقش داخل قاعات البحث، ولكن تبين بعد ذلك أن لهاتين القضيتين أبعادا عديدة اقتصادية وسياسية وثقافية بل ودينية. وفى قمة المناخ (كوب 27) ــ التى تتواصل أعمالها فى شرم الشيخ ــ حثت مصر قادة العالم على اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية لخفض الانبعاثات الدفيئة وتوفير التمويل اللازم للدول النامية للمضى قدما فى هذا الطريق، غير أن هذه القضية تحتاج الى مواجهة شاملة تقتضى طرق أكثر من باب والتعامل مع عدة مداخل.
وفى مقدمة ذلك توعية الناس وحشد مختلف الوسائل لكى يصبح الحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث نابعا من ضمير الإنسان ومعتقداته بما يرشد سلوكه فى التعامل مع عناصر البيئة، وهو أمر عرفته مصر فى حضارتها ومفردات مكوناتها الثقافية ومنها العقيدة منذ آلاف السنين، حيث كان الدين ولا يزال لاعبا أساسيا فى سلوك المصريين فمنذ العصر الفرعونى نجد المصرى القديم، يقسم بأنه حافظ على عناصر بيئته قائلا: «لم أسئ استخدام حيوان... لم ألوث ماء النهر» كما ورد فى «كتاب الموتي»، كما تحث تعاليم الإسلام على ترشيد استهلاك المياه والمصادر الطبيعية إلى جانب التزامات أخرى تشكل فى مجملها معالم منهج متكامل.
من هذ المنطلق عرضنا فى المقال السابق لجوانب من الرؤية الثقافية والحضارية لمعالجة هذه القضية، واليوم نستكمل أبعاد هذه الرؤية التى تجسدها تعاليم الدين، حيث تعتمد المقاربة الإسلامية فى هذا الصدد على وسائل رئيسية تستهدف حماية البيئة من التلوث، والحفاظ على الحياة البرية والمصادر الطبيعية. وتتدرج هذه الوسائل فى عدة مستويات، ينطلق المستوى الأول من ضمير الإنسان ويرتبط بالوازع الإيمانى من خلال ربط الحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث بالعقيدة، حيث تعتبر حماية البيئة من التلوث شعبة من شعب الإيمان، يجسد ذلك الحديث النبوى الذى رواه أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة .. فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». وهناك جملة من التعاليم الدينية التى تحث على النظافة باعتبارها من الإيمان، فضلا عن مركزية الطهارة فى ممارسة العقيدة وفى حياة المسلمين، فمادة الطهارة واشتقاقاتها المختلفة وردت فى 31 موضعاً بالقرآن الكريم، مثل قوله تعالي: «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» (البقرة: 222) «وثيابك فطهر والرجز فاهجر» (المدثر: 4-5) وفى الحديث النبوي: (الطهور شطر الإيمان) (رواه مسلم) نظرا لاشتراطها لصحة الصلاة التى هى عماد الدين، وهذه الطهارة تمتد بطول حياة المسلم وعرضها وتحيطه فى نفسه ومكانه وبيئته، ولا شك أن النظافة والطهارة وإماطة الأذى عن الطريق تعنى فى مجملها مواجهة تلوث البيئة بكل أشكاله وتطهير البيئة التى يعيش فيها المسلم.
ويدعو الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ فى العديد من الأحاديث النبوية إلى المعيشة فى بيئة خالية من التلوث ومن سوء المنظر ومن الأذى بكل صوره وألوانه، ومنها: «تنظفوا حتى تكونوا كالشالة البيضاء بين الأمم»، وتشمل نظافة الأماكن ـــ بالإضافة للبيوت ـــ الأسواق والمساجد، المنتديات أو غيرها من الأماكن التى يقيم فيها الإنسان، كما يحث الإسلام بصفة عامة على نظافة الأرض وحمايتها من التلوث، فالنظافة شرط أساسى للأرض التى تؤدى عليها الصلاة. ويندرج فى ذلك الاختيار المناسب للموقع الذى سيقيم فيه الإنسان وقد وضع علماء المسلمين الأوائل شروطا للسكن من أبرزها: أن يكون فى بيئة خالية من العلل والأمراض، وألا يكون معرضا للرطوبة أو محروما من النور والهواء وقد حرص المعماريون الإسلاميون على مراعاة هذه العوامل التى تضمن نظافة بيئة المنزل وتهويته فى تصميم المبانى التى شيدوها. وفى هذا الصدد أشار ابن سينا فى كتابه «القانون فى الطب» إلى بعض هذه العوامل البيئية التى تؤثر فى صحة السكن، وخلص إلى أن أماكن البيوت يجب أن تكون من ناحية الشرق حتى تدخلها أشعة الشمس وأن يتم توجيه فتحاتها باتجاه تمكين الرياح النقية من الدخول إليها.
التعليقات