بين 21 فيلمًا داخل المسابقة الرسمية لمهرجان (كان) ارتفع الرقم النسائى إلى 7، لتتجاوز النسبة 30 فى المائة من عدد الأفلام.. هذه هى المرة الأولى التى تحظى فيها النساء فى المهرجان بتلك النسبة التى أراها عادلة، بل لو تجاوز عدد المخرجات فى المسابقة الرسمية نسبة الـ 50 فى المائة لا نعتبرها تجاوزًا ولا حتى تحيزًا، طالما أن المعيار هو الإبداع، بعيدا عن أى اعتبارات أخرى مهما حملت من منطق اجتماعى.. فهذه نقرة وتلك نقرة.
الفيلم رقم سبعة فى المسابقة الرسمية للمخرجة التى سبق لها المشاركة أكثر من مرة فى المهرجان بأفلام خارج المسابقة الرئيسية، لكنها أثارت أيضا ضجة، أتحدث عن المخرجة الفرنسية كاترين كورسينى وفيلمها (العودة) بالفرنسية (العودة للديار) كما تمت ترجمته بالإنجليزية.. قرار العرض ظل معلقًا بضعة أيام، والمهرجان تريث فى الإعلان أيضا عنه بعد أن تقدمت أكثر من جهة باحتجاج ضد عرض الفيلم، بينها المركز السينمائى الفرنسى، تعرض الأحداث فتاتين تحت 18 عاما، مارستا العادة السرية ضمن الأحداث، لا تصور هذه المشاهد إلا بعد موافقة القاصرتين والوالدين، كما أن تلك المشاهد لم تكن مدرجة فى السيناريو الأصلى.
الإطار الإجرائى من الناحية الشكلية لم يتم التعامل معه بالدقة المطلوبة بعيدا عن نوعية أو فحوى اللقطات، ولهذا تقدمت أكثر من جهة تطالب بإقصاء الفيلم من المهرجان، منها منظمة (50 50) التى تعنى بالمساواة بين الجنسين، بالإضافة لأكثر من جمعية نسائية وجدت فى الفيلم اعتداءً على القصر. الأمين العام للمهرجان (تيرى فريمو) بخبرته العريضة فى المهرجان، لديه القدرة على الضبط والربط وأيضا المرونة.. لم يسارع بإصدار قرار سريع قبل دراسة الأمر بمختلف جوانبه الفنية والقانونية. لا يخلو أى مهرجان من مواقف مماثلة، مثل احتجاج فنانين من فلسطين على تصنيف فيلمهم باعتباره إسرائيلى الجنسية بينما هو ناطق بالعربية وقضيته عربية، وهى حكاية تكررت فى أكثر من مهرجان، لأن الفيلم عندما يحصل على تمويل من صندوق دعم السينما فى تل أبيب يحمل الجنسية الإسرائيلية تبعًا لجهة الإنتاج، وهذه الأفلام يشارك فيها فنانون من (عرب فلسطين)، يعيشون فى إسرائيل ويحملون الجنسية الإسرائيلية، بينما دماؤهم وانتماؤهم فلسطينى، يتظاهرون فى العادة أمام السجادة الحمراء.
سبق مثلًا أن طالب فريمو، النساء، بضرورة ارتداء الكعب العالى على السجادة الحمراء فى العروض الرسمية، ووجدت بعض الفنانات أن هذا يعد تدخلا فى الخصوصية، فتعمدن خلع الحذاء والسير حافيات على السجادة الحمراء، فلم يكرر فريمو الطلب.. وفى العام الماضى، نزعت امرأة ملابسها للفت الانتباه ثم ارتدت علم (أوكرانيا) لإعلان التضامن.. حكايات متعددة، وعلى المسؤول مواجهتها بحنكة وقدرة على ضبط رد الفعل.
هذه المرة، تصاعدت الاحتجاجات وشاركت (الميديا) فى تناولها، فلم يسارع مثلا بإلغاء عرض الفيلم، ولكن أرجأ اتخاذ القرار وبدأ التحقيق مع كل الأطراف، واكتشف أن الخطأ فقط إدارى.. الفتاتان أقرتا أنهما صورتا مشاهد العادة السرية وهما بكامل ملابسهما، وأن المخرجة قدمت فقط لقطات للوجوه، وأنه لا يوجد أى انتهاك لهما، وتدربتا كثيرا على أداء تلك اللقطات قبل التصوير.
وعلى الفور، عاد فيلم (العودة) لتزيد الحصيلة النسائية لرقم غير مسبوق لمهرجان (كان)، وأتصور أنه قابل للزيادة فى الدورات القادمة.
ويبقى الدرس الأهم، وهو أن حرية الفنان فى التعبير محفوظة، ولكن من حق المجتمع أن يتأكد أيضا من الالتزام بكل المعايير، مثل عدم إجبار القُصر على إتيان أفعال دون موافقتهم.
الأمر كما ينبغى أن نتابعه لا يتكئ على معايير رقابية مباشرة، ولكن قواعد اجتماعية راسخة تستند لقوة القانون.. وعندما تأكد تيرى فريمو، الأمين العام للمهرجان، من كل ذلك أعلن أن كاترين كورسينى هى المخرجة السابعة فى المسابقة الرسمية.
أتذكر أن مهرجان القاهرة قبل سنوات قليلة عند عرض أحد الأفلام المصرية داخل المسابقة الرسمية ترددت على (النت) اتهامات لمخرج الفيلم بالتحرش الجنسى، لم يصل الأمر لتقديم بلاغ، ولكن مجرد اتهامات مرسلة على صفحات التواصل الاجتماعى- ملحوظة لم نر حتى كتابة هذه السطور ما يفيد بإدانة المخرج ولا حتى بالتحقيق معه - إلا أنه على الفور، صدرت تعليمات بإلغاء ندوة الفيلم التى كان مقررا إقامتها مساء نفس اليوم، كما تم الاتفاق مع لجنة التحكيم على استبعاد الفيلم- الذى كان يمثل السينما المصرية- من الترشيح لأى جائزة، رغم أنه كان مرشحا لجائزتى الديكور والتصوير. المسؤول لم يتحمل مجرد شائعات.. لا أحد قطعا يملك التأكد من صحتها، لكن أخذًا بالأحوط قررت إدارة المهرجان استبعاد الفيلم، وهو ما يضرب قطعًا مصداقية المهرجان الدولى.
وفى عام آخر، احتجت الرقابة فى اللحظات الأخيرة على فيلم الافتتاح، وطالبت بعرضه للصحفيين فقط بعد الافتتاح، ولم تستطع إدارة المهرجان مناقشة الرقيب، كيف لمهرجان سينمائى عالمى يقدم الافتتاح بدون فيلم؟، ولم تجرؤ إدارة المهرجان حتى على التوضيح للرأى العام بأن هذا هو رأى الرقابة، كما أنها لم تمتلك المرونة لمواجهة الأزمة بعرض فيلم افتتاح بديل.
فن إدارة الأزمة هو واحد من أهم عناصر النجاح، وهو قطعًا ما نحتاج إليه فى العديد من شؤون حياتنا!.
التعليقات