إن الشعور بالأسى لشيء مؤسف لكن كتمانه على الأرجح أشبه بكتمان أنفاسك إلى أن تتلاشى أنت من الوجود وتصبح كرماد الأموات... في البيت الرتيب، هناك جمود في كافة الأرجاء يمكن أن تلحظه بسهولة. بداية من موقع البيت حيث الطبيعة الساكنة، فلا وجود للطبيعة الخلابة، إنها ليست خلابة، بل مخيفة. كمنزل محاط بأشجار الغابات الطويلة، المرتبط بها أفلام الرعب فقط. تظل تمشى أميالًا، تجعلك تشعر أنها بلا نهاية. وما إن وصلت، تدرك أنك ضللت الطريق ولا مجال للعودة.
بوصف أعمق، يجوز تسميته "منزل الأموات". نوافذ بالية، جدران تغزوها خطوط وتعاريج أشبه بخيوط العنكبوت، حتى أن أسفل كل جدار أصبح ملاذًا لأي حيوان زاحف يفر على جانب الجدار كأنما يمر على قضبان شريط السكك الحديدية. الشيء الأكثر إثارة للانتباه أنك تجد على الحائط المواجه لباب المنزل حين الولوج، ثلاثة براويز لثلاث صور لأخوة متقاربين بالعمر في ريعان الشباب. إنهم أبناء أصحاب المنزل ولكن هناك شارة سوداء على جانب كل برواز. من الواضح أنهم رحلوا عن عالمنا. إنها قصة الأمس البائسة المخيفة. كيف لثلاثة إخوة بهذا العمر أن يرحلوا تاركين الفجيعة والذهول لوالديهم؟!
كانت الأم، منذ عهد بعيد، تعمل كجليسة لعجوز وحيدة ليس لها أحد. موعدها جليستها إن كل شيء سيصبح بالنهاية لها. جاء القرار بعد تدبير طويل ووضع خطة محكمة من قِبل الجليسة وزوجها المنساق دائمًا لتخطيطاتها. "سوف نسرق غرفة مكتب السيدة العجوز ثم نحرق الغرفة بإفتعال ماس كهربائي حتى تختفى معالم السرقة تمامًا." قالت، "حسنًا يا زوجتي، ولكن أسنطعم أبنائنا حرام؟!" رد الزوج. "لا تقل ذلك، هذه الأموال من ثمن خدمتي لتلك العجوز البخيلة التي ترمي لنا الفتات وتعتبره كنزًا بالنسبة لنا. هذا من حقنا."
لم يكن بالحسبان أن تموت العجوز بالحريق المفتعل من جانب تلك الجليسة. ولكن سرعان ما انتهى الأمر وأصبح بيت العجوز بالكامل لجليستها وأسرتها. إن طموحاتها أكبر بكثير من الواقع الذي تعيشه، فلم تكتفي بما فعلته مع تلك العجوز وما أخذته جراء فعلتها، بل قررت السفر للخارج للبحث عن عمل آخر. وهناك على متن السفينة المتجهة لإيطاليا، قابلت ثريًا أوروبيًا، علمت أن معه حفنة من الدولارات والذهب. وأتتها الفكرة بأن تتودد إليه خلال الأيام القليلة التي ستقضيها معه على متن السفينة حتى وقع بحبالها ظنًا منه أنها فريسته السهلة ذات الجمال المتميع. الحقارة هنا تكمن في مساعدة زوجها وموافقته على أن تتقرب زوجته من هذا البرميل الثري إلى أن يحين يوم وصول السفينة إلى مقصدها فيقومان بوضع منوم له في الأكل ويفران هاربان بكل ما معه من نقود وسبائك ذهبية. معتقدين أنه حان الوقت لأن تضحك الحياة لهم. لكن "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، ذلك قول الله تعالى.
بالأمس كانت الأيام معهم والدنيا جميعها بحوزتهم، واليوم التفت الدنيا بوجهها الآخر. ما أشقاه الإنسان حين تكون الدنيا أكثر همه، وما أقساه فراق الأحباء! إنه الهلاك العظيم... فقدوا أبنائهم الثلاثة بشكل مأساوي واحدًا تلو الآخر على مدار ثلاثة أعوام متتالية. فالابن الأول توفي في نفس منزل العجوز بنفس الغرفة وبذات الطريقة، بحريق ماس كهربائي، ولكنه ليس مفتعل مثلما فعلت والدته سابقًا، إنه القضاء والقدر. أما الثاني فتوفي غريقًا من على متن نفس السفينة المتجهة لإيطاليا. وجاءت للابن الثالث تلك السكتة القلبية اللعينة أثناء نومه فلم يستيقظ وظل في سبات عميق للأبد...
ترك الوالدان منزل العجوز بكل ذكرياته المفجعة وذهبوا لذلك المنزل البعيد "منزل الأموات". إن المشهد الآن يمكن تصوره كما لو تذكرنا المشهد الأخير من فيلم "موعد على العشاء". البطل والبطلة جالسان معًا لتناول العشاء الأخير، وعلى طاولة العشاء الرديئة تفوهت البطلة لأول مرة بعد أن ظلت قرابة عامين لم تتفوه بكلمة واحدة، قائلة:
إنني أكتمل معك كما لم أكتمل من قبل، فكيف تفرقنا بعد أعوام الحب؟ أعلم أنني مخطئة، ولكن سأظل أنا "كيان"، السيدة الجميلة التي يمكن أن تُغفر لأخطائها البشعة. لست وحدي من اخطأ في هذا الكون، فإن الأخطاء الجسيمة قد يُدفع ثمنها باهظًا لتلافيها، وليس هناك من دفع مثلي... أنا.. أنا.
كنتِ كياني يا "كيان".. تسربتِ إلى قلبي منذ الشباب، ولكنكِ الآن تتسربين مني كتسرب الدم من الجسم عند وقوع حادث أليم حتى يصعد الروح. أنتِ الآن تحتضرين، ليس من السم الذي وضعته في الطعام، فقد استبدلته بالملح الأبيض دون أن أرى. أنتِ تحتضرين من الحسرة والقهر على ما ارتكبته بحق نفسك وبحقي. لقد علمت بالصدفة منذ فترة وجيزة أنني لا أنجب، يا "كيان". شعرت بالتعب وذهبت للطبيب، وأكد لي أنني لا أستطيع الإنجاب!
كيان: أنا.. أنا أشعر بالاختناق، لا أستطيع التنفس.
أنا لا أنتمي إليكِ بشيء، ولا يربطني بك سوى عقد زواج اعتبرته مزيفًا، هيا غادري الحياة واصبحي شيئًا لم يكن.
سامحني.. سامحني.
التعليقات