لا تزال الحياة مليئة بالغوامض وخوارق العادات، أسرارها شديدة العُمق لدرجة قد يخالُ للمرء بأنها تطفو على سطحِ الماء لكنها بأقصى الأعماق…..
الإيحاء …. التخاطر …. الحاسة السادسة …. الحدس …. التخاطب الخفي ….. وغيرها من الخوارق التي يصعب تفسيرها أو سنِ قانونٍ يأطرها….
حينما أبدع امرؤ القيس بنسيجه الشعري متناهي الجمال حيثُ جعل البعض يعتقد بأن الجن قد ألهمتهُ هذا الفن و علمته الشِعر في (وادي عبقر)، هذا المكان الذي اعتقد بهِ الانسان العربي القديم بأنه ملهم الشعراء والمبدعين وخارقي الذكاء ومنه جائت كلمة (عبقري)…..
كذلك الشعوب الأخرى وجدت من الشيئ الغامض مصدر تفسير لما عجزت عقولها عن ادراكه، ففي رواية (عازف مزمار هاملين) يستغيث الفلاحون الفقراء بعازف مزمار مغمور كيما يخلصهم من قطيع الفئران التي غزت بلدتهم وقضت على محاصيلهم الزراعية فاستعانوا بالزمار الذي نفخ بمزمارهِ ألحاناً جعلت قطيع الفئران كلها تتبعه، فساقها لخارج البلدة وقضى عليها، وحينما امتنع الفلاحون عن إعطائهِ أتعاب ما صنع، ما كان منهُ إلا أن غير النغمة هذهِ المرة ونفخ لحناً جعلت كل أطفال البلدة تتبعه، حيثُ ساقهم لخارجها وأخفاهم قسراً، حينها أدرك هؤلاءِ الفلاحون أنهم أمام شخص خارج أطر الطبيعه استخدم علم الماورائيات لتنفيذ غايته…. إذا ثمة قوة خفية لم تُدرك ولم تُرصد ولم تكن معتادة ومعروفة، قد يعزيها البعض بأنها شعوذة لكنها ليست كذلك، هي قوة مجهولة تم استخدامها أو نوع من العلم استطاع هذا الزمار ادراكهُ دوناً عن غيره….
هذه القوة أو الحاسة الكامنة هي ذاتها استخدمها (ناثان إبن حيرام) في (بعلبك) ولكن بطريقةٍ أخرى تمثلت بإستدعاء زمني يعود لمئات السنين للأمام لا للخلف! حينما عاد (ناثان) لحبيبته وخرج لها من عمقِ التاريخ الغابر ليلتقيان أخيراً كحبيبين عبر زمانين مختلفين، إنه حتماً الرائع (جبران خليل جبران) الذي أخبرنا عن هذهِ الميتافيزيقيا الغريبة بقصة (عرائس المروج) والتي أصدقها رغم أنها من نسج خيال جبران الخصب، لكنني بالقطع عشتها وأحسستُ بها شخصياً رغم غرابتها……
هل هي تيار؟
هل هي نداء خفي؟
هل هي نبض خافت؟
هل هي حوار نشأ بداخل الانسان الذي فيني؟
حقيقةً لا أعرف ما هذا الشي الذي اعتراني وجعلني أجثو على ركبتاي لأرضٍ وطئتها لأولِ مرة و شعرتُ فيها بقوة جاذبية أخرى ليست هي ذاتها التي اكتشفها (اسحق نيوتن)، لكنها جاذبية غريبه جداً فيها صوتُ أنثى أعرفه تماماً، صوتٌ أقدسه، صوتٌ أكادُ أعبره حتى للزمنِ القادم، إنهُ صوتُ إمي المرحومة… لكنهُ صادر من القاع وفيهِ مغناطيس جاذب يُلصق أرجلي بأرضٍ صارت بالنسبةِ لي أرضاً مطهره لأن صوتُ إمي انبثقَ منها بكل عنفوان….
هل هذا إحساس و شعور … لا أعرف، هل هذا حدس .. لا أعرف، هل هذا خيال … قطعاً لا، لأنني عشتهُ بالصحو لا بالحلم….. عشتهُ بكلِ تفاصيله، ودقائقِ حذافيره، كنا نتخاطب فيما بيننا عبر وسيلة لما تزل مجهولة بالنسبة لي رغم إني عشتها و أدركتها…..
قبل مائتي عام خلت، وفد من أرض البلقان وتحديدا من (ألبانيا) الجد الثالث لوالدتي المرحومة ليستقر به الحال في مدينة حلب والذي كون فيها أسرته وسلالته، لتمر السنوات بعد ذلك و يكتب لي القدر زيارة هذا البلد الجميل، كنت أتوقع أن أرى فيهِ الطبيعة الجميلة الخلابه والبحر الساجر الدافئ والشعب الطيب، وهذا ما حدث فعلاً لكنني لم أكن أتوقع أن أسمع فيهِ صوتُ أمي المرحومة يناديني من شاطئ بحر (فلورا) ومن مرتفعات(تيرانا)، لم أكن أتوقع أن أمشي في طرق وغابات كنت قد مشيت فيها سابقاً قبل مئات السنين عبر أسلافٍ لي صرتُ فيما بعد جزئاً منهم!!
لم أتوقع حينما شربتُ من نهر ( فالبونا) المثلج أن يتكلم طعم الماءِ بداخلي و يذكرني بمزقاتِ ماءٍ شربتها أمي في زمنِ أجدادها الغابرين….
إن ما أحسهُ وكتبهُ (جبران خليل جبران) في عرائس المروج هو ما شعرت بهِ أنا في (ألبانيا) أرض أسلافِ والدتي الغالية و التي افتقدها آناء كل دقيقة….
رحلت والدتي وتركت لي حباً لا يندثر….
رحلت والدتي و تركت فيني الطفل المتعلق في ذيل فستانها يتبعها أينما ذهبت…..
رحلت والدتي وتركت بداخلي مرجلاً متقد من الأحاسيس و المشاعر الحزينة الصامته….
رحلت والدتي وتركت فيني خليطاً من القوة والضعف من الصمودِ والإنهيار من الثباتِ والزلل.
رحلت والدتي وتركت لي بقايا صوتها الذي لا يخفت و لا يضيعُ عبر الأثير ولا يتشتت في فضائآت الزمن.
رحلت والدتي و تركت لي (ألبانيا) حيثُ خاطبتها فيها وبكيت على حجرها وعانقتها طويلا…..
إنها الحياة إذاً ….. ببواطنها وظواهرها، بأسرارها وجلائها …. في كلِ منحنياتها و خباياها.
من قال بأن الجماد لا يتكلم ولا يشعر و لا يئن، وقد نطق أديمُ الأرضِ من تحتي وبكت أشجارُ الغاباتِ لحسرتي، وامتلئ فضاءُ المكان بصوتِ أمي المقدس، ومازال الطفل بداخلي منتظراً متأملاً شغوفاً للقاءِ والدته حتى لو كان عبر الأثير و الخيالِ والأنين.
التعليقات