تستحضر هذه المجموعة القصصية صورة "الصندوق الأرابيسك" بما يحمله من زخارف متشابكة ومساحات ضوء تتسلل بين فراغاته، فيتحول إلى رمز لحياة الإنسان في وحدته وانغلاقه، لكنه أيضًا منفذ إلى التنفس الروحي والاتصال بالعالم المحيط. فالصندوق هنا ليس مجرد وعاء للأشياء، بل حافظة للذكريات والسرائر، ومخزن للأمنيات واللحظات الفارقة في مسار العمر، تختزلها صورة، أو رسالة، أو خاتم لم يعد مقاسه مناسبا.
ومن خلال هذا التوظيف الرمزي، تكشف النصوص عن رؤية للحياة بوصفها بناءً متشابكًا أشبه بنقوش الأرابيسك؛ تتكرر فيه القصص وإن تغيّر أبطالها، لتؤكد على المصير الإنساني الواحد، القائم على تداخل الذكريات والأصوات والأشياء التي تُمنح حياة خاصة عبر الكتابة. ومن هنا يغدو الصندوق استعارة كبرى للحياة ذاتها، بزخارفها وتشابكها واحتوائها لتجارب إنسانية متكررة ومتجددة في آن واحد.
لغة المجموعة جاذبة تمزج بين السرد الواقعي والرهافة الشعرية.
يستخدم النص كوعاء أو صندوق تتداخل فيه أصوات البشر مع أصوات الجمادات وكائنات تمثل حلقة وصل بينهما" الفيروسات"
الشخصيات عادية مألوفة لكنها تنطوي على أبعاد فلسفية تَشرح الحياة وتُشرحها، وأشياء مؤنسنة قُدمت ليس رغبة في فانتازيا مسطحة، لكن ليتشكل الوجود من كل الموجودات من الأحياء والجمادات، فكل له حديثه وحوادثه التي لا يفطن إليها الا من وعي الدور الذي من أجلها أوجدت.
تميزت المجموعة بالقدرة على استخراج المعنى من التفاصيل الصغيرة (طبق فول، حذاء قديم، صندوق ذكريات، وردة على طاولة…) مما يجعل النص يتحدث عن الانسانية بعمومها رغم بيئته المصرية الخالصة.
تفتتح معظم القصص بمشهد حسي سواء واضح أو ملتبس يبدو للقارئ عاديا للوهلة الأولى فإذا بها تستخرج منه بعدا رمزيا أو دلاليا عميقا مكثفا.
النهايات قد لا تحتوى على الدهشة او المفارقة بصورتها المعهودة، لكنها تكشف ما ستر اوتفسر ما ألغز مثل تمسك الام بطبق الفول الذي يعد معادلا موضوعيا عن استحضار الابن المفقود، أو قد تقود الى مجهول لمهرج لا يهمنا أن نعرف سبب دمعاته بل يكفي أن نعلم انه كما نحن يطوي حزنا في مخبأ لم يعد سريا داخله.. نهايات تدعوك الى وقفة تأمل متعمقة تصلح أن تكون خاتمة لقصة كل منا.
الثيمات: تتكرر ثيمة الوحدة و الانعزال والغياب (كما في "طبق فول" و"رسائل البحر")، وثيمة الحلم الموؤود كما في "حفيدات سندريلا" تجعل من استدعاء الذاكرة ملجأ لمقاومة قسوة الواقع كما في "صندوق أرابيسك"
هناك دائما حديث داخلي، مونولوجا أحادي الصوت يعكس غياب التواصل والانكفاء على الذات وايجاد آخر غير تقليدي له قدرة على الانصات الى همس الأنفس ولا يملك حرية رفض الاستماع ، كزائر الليل والبحر والنوارس، حتى الشجرة تتحدث الى نفسها حتى اقتراب نهايتها حين ترى القادمون نحوها بالفؤوس، أو حوار البطلة مع السفينة لا مع من يعتليها لتسألهم عن الغائب.
وحديث الى البحر بغموضه وعمقه الذي هو نفسه صنوق مغلق يسحب الأمنيات إلى قاعه ليحفظها لكل متطلع إلى حديث مع الماضي والذكريات المخبوءة لا ليغرقها ويخفيها عن الراغبين.
ومع هذه العزلة والتوحد هناك حياة عامرة وصاخبة مع النفس ومع المحيط من غير البشر
استخدام ضمير المتكلم في هذه المجموعة له دلالات
يضفي طابع الاعتراف والبوح بمكنونات النفس ليشعر القارئ أنه يشارك الراوي همومه الخاصة، فيصبح جزءًا من سرديته
وضمير المتكلم يتناسب مع ثيمات العزلة والخذلان والمرض والفقد، مما يؤكد البعد الذاتي حتى عندما تكون التجربة رمزية أو متخيلة.
تعدد الأصوات داخل الأنا هي قناع سردي يتبدل من قصة لأخرى: مرةً تكون امرأة تنتظر الفرح، او شجرة او غير ذلك، مما يعطي الإحساس بأن الراوي يتحدث بلسان جماعة، لا فرد واحد، بل بلسان الاشياء المؤنسنة ليصبح السرد فعلًا ذاتيًا يضفي الحياة على الجمادات.
وبنظرة سريعة على بعض القصص
ذات عيد (35)
من اجمل القصص فالعيد بالنسبة لهم لا يتضوي على رونق وابهار وبذخ اليوم لكن الخالة ذكية كانت هي العيد، لم تكن جميلة لكنها قادرة على الاسعاد ومع التطور اختفى بيت ذكية وظهرت العروسة اللعبة الشقراء بين الانقاض لتعلن ان ما نراه اليوم ليس قادرا على اعادة العيد بمفهومه الانساني القديم فالعيد احساس لا مظاهر وقد تعددت الارهاصات الونذارات بان هذا اليوم قادم لا محالة "عندما كبرت الفتيات ومنعن من الذهاب ثم زهد الفتية في بضاعة ذكية"
السجين (39)
اعطتني انطباعا أن هذه التماثيل قد تكون بشرا أصابتهم لعنة التمرد على القدر فسجنوا في هذه الحجرة المظلمة بمتحف الشمع وهي ذات الحجرة المظلمة داخل نفسه التي لا يستطيع صوته ان يتحرر منها ليظل حبيسا يردد داخل نفسه: انا لست تمثالا انا بشر من لحم ودم لي الحق ان اتمرد واتحدى واتحرر.
صانع البهجة (43)
فكرة من يخفي حزنه بالمساحيق ليسعد الاخرين هي فكرة مكررة، وتكررارها يدل ان كلنا هذا الضاحك الباكي فالانسان يحتفظ بحزنه لنفسه فعليه دور لابد ان يؤديه لتخفيف الضغوط عن الاخرين سواء باسعادهم او اداء مصالحهم مهما كان بداخله نقيض مهمته.
افتح قلبك (47)
الورقة البيضاء في آخر القصة تؤكد ان حياتنا صفحة بيضاء ننتظر لنعيشها ونخط على تلك الصفحة تجربتنا الخاصة التي قد تتشابه او تختلف مع حياة الاخرين.
صعود (53)
تنقم على العصفور الذي استمرأ واعتاد على شعور الخوف معرضا نفسه للخطر من اجل المغامرة والاستكشاف، الحقيقة ان هناك مهمة اسمى الى جانب قيمة العمل، هناك مهمة الاسترزاق من اجل نفسه ومن يعولهم حتى وان انطلق نحو حتفه من اجل ذلك فهو يستحق الإشادة لشجاعته وليس التسفيه من اجل حمقه. وهي تتقاطع مع قصة المهرج.
الفائز (57)
قصة وجودية فانتازية تقر حقيقة حياتية وهي ان هناك من يتبارون من أجل الفوز بينما الفائز يكون شخص آخر فالحوار بين الشمس والسحاب انتهت باختفاء الشمس خلف الغيوم وتحول السحاب الى مطر فلم يفز الاثنان وفاز الطفل بالمطر، فالطفل رمز للامل والمستقبل وكذلك المطر رمز للخير والنماء هناك فلسفة في القصة رسخها الاسم فالاسم مناسب حيث يفوز الطفل من جراء تصارع قوى الطبيعة المسخرة كلها من اجله ولها ارتباط وثيق ايضا باسم المجموعة حيث تتداخل مضاهر الحياة مع الجمادات والظواهر التي تشكل الصندوق الذي قد يشكل الكون بل الحياة نفسها.
المرآة (63)
المرآه ليست هي العدو الفظ الذي يلقي بكلماته القاسية على ناظريها لكنها تمثل الحقيقة التي تعرفها جيدا سواء نظرت ام لم تنظر فيها. لكنها تظهر انه لا يشعر بالمأساة الا من يمر بها ويظهر وقت الشدة من الذي يدعم ومن يقفز من المركب، وتشير اللى كيفية التعامل مع اصحاب المآسي، فاظهار الدعم أولى من اظهار الشفقة وليس بالضغط على الجرح ولو بتعمد اخفائه ، ومع انها تعامل جسدها بذات الاسلوب الذي ترفضه إلا أنها تحاول ان تستوعبه كما أصبح بنقصه وتشوهه.
في السقوط حياة (67)
سقوط المطر، والسقوط في براثن الوحدة والخذلان رغم التضحيات، كلاهما سقوط لكن شتان بينهما، أحدهما حياة والآخر موت، لعلاقات غير وية، لتعلم في النهاية انه اذا كانت هذه هي الحياة فعليها ان تعيشها كما هي وان لم تكن الافضل حتى انها قررت في النهاية أن تمارس العطاء كما اعتادت.
وأعود اعود الى طاولتي (71)
ثيمة الوحدة تتكرر حتى في الزهور الاصطناعية تخنقها رقبة الزهرية الضيقة والركن المنزوي من المكان بمنأى عن المرتادين، يتحكم بها اخرون؛ نادلة أومهندس الديكور لينتهي الامر بها في حفرة مظلمة وهي نفس القصة السابقة رغم اختلاف النهاية لكن الجميل ان دائما هناك أمل منتظر.
تخاريف (77)
حوار مع المرض او الفيروس عزلة جديدة ووحدة اخرى لكن دائما هناك مؤنس يفترض به ان يكون عدوا لا يرحم فإذا به يعقد اتفاقا على الرحيل.
ديجا فو (83)
عنوان مكرر لأعمال تحكي احداثا عدة من منظور مختلف فدائما هناك "باك ستوري" قصة خلفية وكواليس الكل يعيش نفس الحالة المتكررة من تبدل الاحوال؛ صاحبة القط وقطها والفار والنمل....
قد تعتبر تخاريف هي نفسها عالم مواز، لكن هنا تتنافس الامراض والفيروسات متفاخرة بقدرتها وكفاءتها في حصد ارواح البشر وإمراضهم "الباك ستوري " هنا هي من الذي يستخدم هذه الامراض كسلاح للتحكم بمصائر البشر حتى ان الفيروس اعتبر نفسه فدائيا في مهمة ذهاب بلا عودة لكنه ليس كذلك حيث انه مجبر على فعل ذلك دون أن يكون له قضية بدافع عنها
تأتي مجموعة "صندوق أرابيسك" للكاتبة نرمين ديميس كمساحة بوح إنساني رقيق، حيث تلتقط مفردات الحياة اليومية لتعيد تشكيلها في لوحات قصصية نابضة بالمعنى. منحت الأشياء صوتًا وحياة، وجعلت المرض والفقد والحلم جزءًا من سردها، فاقتربت نصوصها من الاعترافات التي تُكتب بضمير المتكلم لتُشرك القارئ في التجربة، حيث نسجت عالَمًا يشبه الأرابيسك متشابك، متنوع، رغم تكراره لا يكتمل إلا بتجاور كل قطعة مع الأخرى. هي تجربة قصصية تؤكد قدرة الأدب على إنقاذ التفاصيل الصغيرة من النسيان، لتصبح مرآة للذات والآخر معًا.
التعليقات