أمس كان موعد إذاعة الأغانى مع جمال عبد الناصر فى ذكرى رحيله، كل الفقرات الثابتة لأم كلثوم وعبد الوهاب وحليم وفريد لا تقدم سوى أغنيات للزعيم، تحرص على ضبط القافية والتفعيلة على ناصر أو جمال أو أبو خالد.
(كاريزما) ناصر لا يمكن التشكيك فيها، الحب الذى منحه الشعب لأبو خالد، وأيضًا عشق عبد الناصر للوطن، أصاب أو أخطأ التقدير، لا يمكن التشكيك فيه.
الجرعة الغنائية كانت زائدة عن الحد، فلم نغنِ مثلًا للملك فاروق واحد فى المائة مثلما غنينا لعبد الناصر، بينما حصيلة محمد نجيب من الغناء باسمه لا تتجاوز مونولوج (٢٠ مليون وزيادة) فى فيلم (اللص الشريف) والمقصود عدد الشعب المصرى فى عام ٥٢، وهناك مقطع داخل المونولوج (الجيش ونجيب / عملوا ترتيب)، حتى تلك اللحظة لم يكن هناك توصيف محدد هل هى حركة أم انقلاب، حتى استقروا على ثورة، وتردد فى أكثر من مرجع أن طه حسين هو الذى أطلق عليها ثورة. هل غنينا عن حب قناعة؟ إجابتى نعم حقًا وصدقًا، هل هناك من غنّى لأنه اعتقد أنه يجب أن يتواجد فى الزفة حتى لا يلاحقه الاتهام فى شرفه الوطنى؟ نعم بنسبة ما، تلك الإجابة أيضًا صحيحة.
ويجب أن نضع فى المعادلة، حتى كبار الشعراء والملحنين والمطربين من الممكن أن يطلب منهم مواكبة حدث معين مثل بناء السد، ويكتشفون أنهم ليس لديهم لمحة جديدة، ولكن لا يمكن بالقطع التقاعس، مثلًا أغنية أم كلثوم (حولنا مجرى النيل / يا سلام على ده تحويل / ح يكون تحويل لحياتنا / مش بس لنهر النيل)، تأليف شاعر كبير عتويل بحجم عبد الفتاح مصطفى وتلحين العملاق رياض السنباطى، أتصور أنه تم تقديمها من أجل فقط توقيع الحضور مثل أى موظف فى مصلحة حكومية، يخشى من غضب رئيسه.
فى المجمل أغنيات عبد الحليم حافظ سواء التى كتبها صلاح جاهين أو أحمد شفيق كامل وأغلبها تلحين كمال الطويل كانت هى الأصدق والأكثر أيضًا جماهيرية.
عندما يقول «عبد الفتاح مصطفى» وهو أحد كبار شعراء الأغنية أيضًا بصوت (ثومة): (الزعيم والثورة وفوا بالعهود / ولسه دور الشعب يوفى بالوعود)، إنه يبرئ ساحة رجل واحد هو الزعيم ويدين شعبًا بأكمله، بالتأكيد ليست كل الأغنيات التى ردد فيها الشعراء اسم «عبد الناصر» كانت مجرد هراء وخوف من السلطة.. لا يمكن أن أصدق مثلًا أن أغنية (احنا الشعب احنا الشعب / اخترناك من قلب الشعب) لصلاح جاهين وكمال الطويل، ولا أغنية «يا جمال يا حبيب الملايين» لإسماعيل الحبروك والطويل، ولا «أحمد شفيق كامل» وهو يقول (ضربة كانت من معلم / خلى الاستعمار يبلم)، أتمنى ألا يتدخل التصحيح ويغير يبلم إلى يسلم، لأن شفيق كامل كتبها عن سبق إصرار «يبلم».
لا أصدق أنها أغنيات كاذبة، لدينا بالتأكيد أغنيات عديدة عبرت بصدق عن المشاعر، لم تنضج أبدًا تحت نيران الخوف من «عبد الناصر».
هل ظل الأستاذ كمال الطويل على قناعته بشفافية التجربة الناصرية ولم يندم على أنه روّج من حيث لا يدرى للعديد من الممارسات القمعية؟
أستطيع أن أقول إنه لم يتشكك لحظة فى صدق عبد الناصر، إلا أنه أدرك قبل هزيمة ٦٧ أن مراكز القوى صوتها أعلى من عبد الناصر، والدليل أن الفريق شمس بدران الرجل العسكرى الثانى بعد المشير عبد الحكيم عامر، منع الطويل من السفر حتى يلحن لعبد الحليم مجبرًا أغنية (صورة) فى عيد الثورة.
كما أن عبد الناصر سأل الطويل أمام رجال الدولة بعد أحد احتفالات يوليو: (هل حصلت يا كمال على ٥ آلاف جنيه قيمة المكافأة عن اختيار (والله زمان يا سلاحي) نشيدنا الوطنى؟)، أجابه الطويل: أبدًا يا ريس، طلب عبد الناصر صرف المكافأة، ولم يتم التنفيذ حتى الآن!!.
الغناء لناصر ارتبط بمرحلة زمنية يذوب فيها الفارق بين حدود الوطن وملامح الزعيم، كنا فى حالة أقرب إلى المراهقة الوطنية، الوجه الآخر للمراهقة العاطفية، وهى بطبعها فى الحالتين، تعبر عن عدم النضج السياسى!!.
التعليقات