أفلامه الروائية قليلة العدد، لم تتجاوز تسعة، تلك التى شكلت الخريطة الإبداعية للمخرج الكبير داوود عبدالسيد، احتلت مكانة استثنائية فى تاريخنا السينمائى، يحلو لأصدقاء داوود أن يطلقوا عليه (حكيم الجيل)، فهو يتأنى فى اختيار الكلمة، ويفكر ألف مرة قبل أن يمسك القلم، ولا يشرع فى التصوير إلا بعد أن يتجسد فى خياله الشريط كاملا.
امتلك داوود عبدالسيد ميكروسكوباً وتليسكوباً، كان يقترب بالميكروسكوب من التفصيلة الدقيقة ليصنع منها عالما مترامى الأطراف، وفى نفس اللحظة كان قادراً بنظرة من خلال التليسكوب أن يرى الكون كله فى لقطة، ببراعة سينمائى قرر أن يمزج وجدانه مع أحاسيس الناس، ويُحيل كل ذلك إلى أفلام تحتل مكانة دائمة فى وجداننا بدقة
(الميكروسكوب ) وبانورامية (التليسكوب)!!.
تعرفت على داوود عبدالسيد، مطلع الثمانينيات، لم يكن قد أخرج سوى عدد محدود من الأفلام التسجيلية، ولم أكن قد شاهدت أيا منها، أثناء احتفال أقامه المركز القومى للسينما، بمناسبة بلوغ المخرج التسجيلى الكبير صلاح التهامى الستين من عمره. استوقفنى مقال كتبه داوود، وتعرفت على صاحب المقال، ثم شاهدت أفلامه التسجيلية مثل (رقصة من البحيرة) و(وصية رجل حكيم)، ثم بدأت رحلته مع الأفلام الروائية، وفى كل مرة أتذكر أن تفرده وصدقه وحميميته فى المقال هى نفسها التى تلمحها فى أفلامه!!.
أغلب السينمائيين يضعون يوسف شاهين كأستاذ ومعلم فى مكانة استثنائية، ورغم اعتراف داوود بإنجاز يوسف شاهين، إلا أن تلك المكانة الخاصة عنده من نصيب توفيق صالح.
تأخر دخول داوود لعالم السينما الروائية. هو خريج معهد السينما ١٩٦٧، التى أطلقوا عليها تهكما (دفعة النكسة)، كانت أولى الثمرات (الصعاليك) ١٩٨٥، قبلها كان هناك أكثر من سيناريو مجهول قرأتها له مثل (كفاح رجال الأعمال).
أتذكر أن المخرج أشرف فهمى طلب منه أن يكتب له فيلما، وكان داوود لا يعمل، ومتزوج من الكاتبة الصحفية كريمة كمال، وعليه التزامات مادية طاحنة، إلا أنه اعتذر، فهو يكتب فقط لداوود.
وانتقل إلى فيلمه الثانى ليسبح فى منطقة إبداعية ساحرة تعمقت فى الكثير من إبداعاته التالية، العلاقة مع الله أتحدث عن (البحث عن سيد مرزوق).
ثم يأتى أكثر أفلامه شعبية، والذى من الممكن أن تصبح مشاهدته مضادا حيويا ضد الاكتئاب (الكيت كات)،
التحدى هو القيمة التى يحملها بطل الفيلم (الشيخ حسنى)، والتحدى هو السلاح. داوود يتحدى بهذا الفيلم همومنا وإحباطنا وعجزنا ويجبرنا مهما ضاقت بنا الدنيا على أن نمرح ونضحك ونحلق ونغنى معه (درجن درجن درجن درجن)!!، جزء كبير من ملامح (الشيخ حسنى) ولدت فى منزلى، عندما جاء محمود عبدالعزيز وداوود عبدالسيد لتقديم واجب العزاء فى والدى، وتعرفا على المقرئ الضرير الشيخ عيد الأبيض، استوقف داوود ومحمود شىء ما فى (عيد الأبيض)، والتقيا به مرتين فى بيتى، والتقط محمود أكثر من تفصيلة تركت بصمتها على الشيخ حسنى!!.
ووصلنا إلى (أرض الخوف)، تأخر كثيراً لقاء داوود مع أحمد زكى، منذ أول أفلامه (الصعاليك) وأحمد زكى يشكل لداوود أحد الجسور الإبداعية، لأسباب خاصة اعتذر، وكان أحمد أيضاً هو المرشح الأول لـ(سارق الفرح) وجاء اللقاء المرتقب ٢٠٠٠ مع (أرض الخوف).
ثم (مواطن ومخبر وحرامي) ٢٠٠١ عندما ذابت الفروق بين اللصوص والشرفاء وانهارت قوة القانون أمام قانون القوة، الصراع الذى كان حتمياً فى الماضى بين الحق والظلم.. بين الجمال والقبح.. بين النغم والنشاز.. تحول مع مرور الزمن إلى تعايش سلمى، يأخذ الحق الظلم بالأحضان، ويتغزل الجمال فى مفاتن القبح، ويقول النغم للنشاز الله الله!!.
بعدها يقدم داوود (رسائل بحر) لتكتشف أنه رسالة من الله، ولكن من قال إن كل البشر يستطيعون قراءة رسائل الله، ويبقى فيلمه التاسع (قدرات غير عادية)، الذى يتحرك فى مساحة درامية تقف دائما بين الشك واليقين، وتلك الومضة السحرية فى العلاقة مع الخالق.
منذ عشر سنوات وداوود مبتعد عن الاستوديو، كتب عدة أفلام بينها (حب)، ورشح محمد رمضان لبطولته، تعثر إنتاجيا، ننتظر جميعا عودة داوود لمعشوقته السينما، وأنا أنتظر أن ألتقيه شخصيا، وداوود مبتعد بإرادته، وأنا لا أريد أن أثقل عليه بالاتصال، الأصدقاء يعلمون أننى لا أدخن، إلا أننى حبا فى داوود كنت أدخن سيجارة واحدة معه لأنه يحلو له أن يصنعها بيديه، ولا أزال أنتظر سيجارة مع داوود منذ ثلاث سنوات!!.
التعليقات