بعد 52 عامًا علي رحيل الملحن والموسيقار المصري محمد القصبجي، الذي وصفه الأكاديمى والمؤرخ الموسيقي فيكتور سحاب، بأنه واحدًا من السبعة الكبار في تاريخ موسيقانا المعاصرة، تبقي ألحانه خالدة بقلوبنا ومرتبطة بنجاحات عظيمة لأساطير الغناء العربي.
ولد القصبجي يوم 15 أبريل 1892 بحي عابدين بقلب القاهرة، وورث عشقه للفن عن والده، الذي كان عازفًا على العود ومدرس موسيقى، فتعلم العزف على يده، والتحق بالكُتاب وحفظ القرآن الكريم، ثم انتقل إلى الأزهر الشريف، ودرس اللغة العربية والفقه والمنطق والتوحيد، ثم التحق بمدرسة دار المعلمين، وتخرج منها معلمًا للمرحلة الابتدائية.
كان على القصبجي أن يلتحق بالسلك التعليمي ووالده أراد له احتراف العمل الديني ولكن هواه للموسيقى لم يبرد في صدره، اشتغل بعد تخرجه في مجال التعليم ولكنه لم ينقطع عن الموسيقى، وبدأ رحلته الطويلة مع التلحين بعمله مع زكي مراد، والد الفنانة ليلى مراد وكانت أول أغنية له من نظمه وتلحينه مطلعها "ما ليش مليك في القلب غيرك"، ولكنه لم ينل الشهرة إلا بعد تعاونه مع كوكب الشرق أم كلثوم، وبدأت هي الأخرى معه.
وإذا لم تكن تعرف من هو محمد القصبجي، يكفي أن تعلم أنه ملحن الأغنية العبقرية التي أبدعتها أسمهان منذ 77 عامًا، ومازالت تحتفظ بسحرها "يا طيور"، والتي حول محمد القصبجي بها الأغنية العربية إلى لحن أوبرالي عالمي، ثم مزج إيقاع الفالس مع كلمات أنا قلبي دليلي للنجمة ليلى مراد ومن العالمية لقلب الموسيقي الشرقية التي قدمها لكوكب الشرق "الست" أم كلثوم حين استمع إليها عام 1923، وهي تنشد قصائد في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم فأعجب بصوتها، وبعدها بعام لحن لها أغنية "حلف ما يكلمنيش"، ومن تلك اللحظة انشغل أكثر في التلحين الغنائي خاصة بعد النجاح الكبير الذي حققه مع أم كلثوم في منولوج "أن كنت أسامح وأنسي الأسية" عام 1928.
بدأت أم كلثوم ترتقى سلم الشهرة مع ألحان محمد القصبجى وظلت تغنى من ألحانه منذ عام 1924حتى عام 1946 فغنت الست من ألحانه (رق الحبيب- مادام تحب بتنكر ليه- ياصباح الخير ياللي معانا- حيرانة ليه دموعي- عطف حبيبي وهناني- خلي الدموع- اصون كرامتي- يا بهجة العيد السعيد- بعدت عنك بخاطري) والعديد من الأغاني لحنها القصبي لكوكب الشرق بكل حب وإبداع.
وفي عام 1927 كوّن "القصبجي" فرقته الموسيقية، حيث ضمت أبرع العازفين في ذلك الوقت، ولم يتوقف عند الشكل التقليدي للفرقة الموسيقية العربية، بل أضاف آلة التشيلو وآلة الكونترباص، وهما آلتان غربيتان.
كما أضاف مقام الحجازكار والرقص المصري الذي سجله بعدها لشركة "جراموفون" عام 1927 تحت عنوان رقص "دلع الهوانم" مع بعض التقاسيم، وتسجيلات كولمبيا خلال العام نفسه وضع فيها خلاصة علمه وعمله.
وقدم القصبجي ألحاناً عديدة للسينما وكان من أكثر الملحنين إنتاجا طوال 50 عامًا وقدم المسرح الغنائي الكثير، فقد قدم لمنيرة المهدية عدة مسرحيات هي: (المظلومة وكيد النسا وحياة النفوس وحرم المفتش) كما قدم لنجيب الريحاني ثلاثة ألحان في أوبريت "نجمة الصباح".
و قام القصبجي أيضاً بتلحين الفصل الأول من "أوبرا عايدة" الذي غنته أم كلثوم في فيلمها "عايدة" في أوائل الأربعينات وكان محمد القصبجي يتطور لكن في إطار المحافظة علي النغمة الشرقية الأصيلة.
وكان تعاون القصبجي مع أسمهان وليلى مراد شرارة للخلافات حيث أثار ذلك غيرة سومة الفنية والتي تعودت أن تكون هي الصوت الذي يغني ألحانه، رغم أنها بدأت في منتصف الثلاثينات التعاون مع الملحن الشاب رياض السنباطي، أحد تلاميذ القصبجي.
وجاءت مشاركة "أم كلثوم" في فيلم "عايدة"، عام 1942، بدايةً لإقصاء مطور صوتها "القصبجي"، حيث حملته مسئولية فشل الفيلم، وأقنعته بأن ألحانه لم تعد كالسابق، وبدأت أم كلثوم تفضل ألحان رياض السنباطي، ومحمد الموجي، وكان ذلك يجرح القصبجي، إلا أنه لم يشتكي، وظل يكتفي بأن يكون معها.
وذات مرة عرض القصبجي على كوكب الشرق لحنًا، فرفضته ولم تكتف بذلك بل قالت له: "يبدو يا قصب أنك محتاج إلى راحة طويلة".
وبعد الراحة الطويلة، ومحاولات الـ"قصبجي" غير المجدية في العودة إلى التعاون معها تم عزله عن رئاسة فرقتها وتحول إلي عازف للعود بفرقة الست.
وفي حوار نادر له لمجلة "الشبكة" اللبنانية، قال: "أنا هويت وانتھیت يا أستاذ، خلاص، لم يبق مني إلا أنامل جرداء، قل عني إني بقايا ملحن، بل بقايا شخص، أنا عملت ما بوسعي وخرجت بأم كلثوم في أكثر من 10 ألحان قدّمتھا لھا، ولكنها أھانتني، وعندما تُھینني فھذا يعني أحد أمرين، إما أني فاشل، وھذا رأيھا، أو أنھا رجعیة، وھذا رأيي".
لحّن "القصبجي" لنجوم الطرب في عصره، بدءًا من منيرة المهدية وصالح عبد الحي ونجاة علي، ومرورًا بليلى مراد وأسمهان، وانتهاءًا بأم كلثوم وكان استاذًا لـ محمد عبدالوهاب ورياض السنابطي وفريد الأطرش.
عشق "قصب"- كما كانت تناديه كوكب الشرق- العزف على آلة العود في فرقتها ليظل بجوارها، إلى أن رحل الموسيقار الكبير فجأة وترك هذا العالم في هدوء في 25 مارس 1966 عن عمر يناهز 74 عامًا، ودفن بالقاهرة، وعندما مات ظلت "الست" محتفظة بمقعده خاليا خلفها على المسرح.
التعليقات