الجميع بلا استثناء مزدحم بالأفكار، مزدحم بالأمنيات والآمال، بالضجيج والخيبات، جميعنا مزدحم، لكن اياك ثم اياك و كثرة التفكير فقد يذهب بك بعيدًا بلا رجعة، وتكون من المشتتين، أما عن العاشق فلا يُلام، دعهُ و شأنه فلن يتناهى إلى مسمعه كل نصائحك و افتراضاتك، إنه فى وادٍ غير ذاك الذى انت عليه، لن تنجح حيلك معه، سيظل على حاله وان أغلقت طرق الوصول كافة إلى من سكن روحه وباتت مستحيلة، تقول فى نفسك " ياله من احمق" ، وكلُ العالمِ احمق فى عينه، كل من لا يفهمه احمق، ويالك من مستبد إذ أغلقت عليه الحصار و وضعته أمام حجج عقلانية أكثر من اللازم، كان حرى بك أن تمنعه من التنفس إذا، و لكنى سأنتقل إلى نوعٍ آخر من العشق فلا أصعب من إخماد ثورة عاشق "فكرته" أجل فكرته، قد يكون عشق "فكرة" أو تمنيها أكبر بكثير من أشياء أخرى، من بين هؤلاء ترى الرقيقة "زينة" تلك زوجة الطبيب المشهور... سقط جنينها للمرة الثالثة و وهن جسدها و شحب لونها، شب الخلاف بينهما بعد أعوام الحب، سأم الحياة معها ،طالما أخبرها أنه لا يسعى لإنجاب اطفال، كادت تفقد حياتها بحملها الاخير رغم علمها بذلك إلا أنها صممت على استمرار الحمل و الإنجاب وإن كان ذلك سيؤدى بحياتها، لم تستسلم أبدًا لرأى الأطباء، منهم زوجها الطبيب الذى تهور بآخر حديث له معها مخبرًا إياها..
-إما أن تقلعى عن فكرة الإنجاب أو ننفصل بهدوء شديد لن اتركك للذبول والموت وانا مكتوف الأيدى
- ليس هناك رادع عن انجابى طفل منك او من غيرك إن انفصلنا
- لقد نفذ صبرى..انتِ لا تعى ما تقولين
- اعى جيداً وسأذهب لبيت أبى إلى أن تتم إجراءات الطلاق و ارجو منك أن لا تطيل المدة
تركها دون التمسك حتى ببقايا عِشرة أو ذكرى بينهم ومضى، و ذهبت هى تلملم اشيائها وتركت المنزل من دون ندم أو تفكير لتنتقل لبيت ابيها بالإسكندرية، رغم البيت القديم والأتربة التى كادت تكسو المكان إلا أنه كان محمل بالذكريات العديدة و الجميلة، كان هناك بدرج مكتب والدها رحمه الله يوجد البوم صور العائلة منذ أن كانت طفلة تملؤها بهجة الحياة إلى أن صارت شابة تمناها كل شباب الحى آنذاك، ولكن لم يتبقى بذهنها سوى أحدهم الماثل بإحدى الصور المذكورة بالالبوم ، إذ أنه كان إبن صديق لعائلة والدها، إنه" كمال " الرسام المغمور الذى احبها وتقدم لخطبتها أكثر من مرة و رفضه والدها، أما الآن بات من اشهر رسامى الإسكندرية و أصبح لديه معرضه الخاص الذى تملأ إعلاناته كل أحياء المدينة
وقفت "زينة" مترددة أمام معرض "كمال" ثم بخطى شبه ثابتة بدأت فى السير داخل المعرض عبر ذلك الممر الطويل الذى تكسوه اللوحات على اليمين واليسار ، لا شئ مسموع سوى زف حذائها الاسود ذو الكعب الممشوق، وهناك بآخر الممر يقف رجلاً ظهرت عليه علامات الشيب الخفيفة على جانبى رأسه لكنها أعطته حده و وقار رغم أنه انتصف العمر وليس بكهلٍ كما يبدو للوهلة الأولى، إن عيناه تفيض حنينًا وانهزام متوارى خلف لوحاته بل سرعان ما ينتهى كل ذلك ثم يهدأ التوهج والانبهار بينما تتعامل معه، تراه بالغ الثقة بالنفس شديد الغرور، ما لك من شئ تملكه عند الحديث معه سوى كلمات قليلة مختصرة ثم تنصرف عنه وانت تتنفس الصعداء ، و ما ان اجتازت خطوات ليست بكثيرة مرت كما لو أنها ركضت اميالا ، تنحنحت قائلة:
- لم تتغير كثيرا يا كمال
-انتِ تغيرت!
- كيف؟
- للأجمل
- كيف حالُك؟
- كما ترين صرت من مشاهير الإسكندرية
- هل تزوجت؟ دعنى أرى أولادك
- لا لم اتزوج، اولادى حولك بالمكان
- تقصد لوحاتك ؟
- أجل، تزوجت الرسم وانجبت لوحاتى الزيتية ونقوشاتى الخشبية التى تعم معرضى، و إن تمعنتى النظر سترين نفسك فى معظم لوحاتى، كنتِ دائمة الإلهام لدىّ،
انظرى إلى هذه اللوحة إنها تشبهك كثيرا اسميتها الملهمة المجهولة ، كنتِ دائما مجهولة بلوحاتى، معلومة بداخلى، انظرى للجهة الأخرى ستشاهدى لوحة تعودى معها سنينا للخلف قبل أعوام لا اذكر عددها كنا بها صغارا نلهو بالحى ولا نعلم ماذا يخبئ لنا القادم
- لا اعرف هل لى أن أعتذر لك عن كل ما سببته لك من ضيق أم أهنئك على ما وصلت له من نجاح؟
- اطلاقا
-.... آآآه معذرة هاتفى يرن..
- نعم .. انت؟ ماذا تريد؟
- حقا لا استطيع العيش بدونك وهناك امل كبير أن تنجبى، صديقى طبيب مشهور جاء من الخارج وهو يزف لى البشرى ، سيقوم لك بعملية بسيطة وسأشرف معه بنفسى ، ارجوكِ لا تتركينى ، المنزل مظلم بدونك .. انتظرك
- حسنا.. قادمة فى الصباح الباكر، تصحبك السلامة
- كمال : اسمعينى ولا تردين أو تجادلين، مرت سنوات عدة وانت كما انت لم يترك الزمن آثاره على ملامحك البريئة، جميلة كما كنت يا زينة ستظلين فكرة تمنيتها بخيالى لو كانت تحولت إلى واقع ما كنت أنا على ما عليه الآن ، ابقى فكرتى الجميلة من فضلك ، ظلى ملهمتى حتى أظل أبدع ، سأسافر غدا إلى بعثة بفرنسا وهناك ستكون فكرة لوحتى الجديدة مستوحاه من لقائى بك بعد كل تلك السنوات، سأكون على موعد معك وحدى هناك، سأكون مسافرا ليس للإبداع فقط ولكنى أيضا سأكون فى رحلة فرار منك ، عودى إليه إنه ينتظرك ، وإلى لقاء آخر فى خيالى وبين لوحاتى.
التعليقات