تنطلق بنا روايتا (انتقام الأبله وحكاية سمكة الصياد) لحجاج أدول إلى عوالم غرائبية؛ حيث الطقوس الاحتفالية العجيبة والأطر الاجتماعية الخاصة بمفهوم العمل نفسه، إلى جانب شخصيات العمل التي يتصارع في أعماقها الخير، والشر، والشهوة، والفضيلة، وكل النوازع البشرية المتضاربة في عمق الإنسانية السَّحيقة.
شخصية الأبله أو عبيط القرية من الشخصيات المطروقة بغزارة في أعمال فنية كثيرة من قَبْل، يمكن من خلالها التعبير عن الأفكار الغريبة والكلمات التي يصعب على الشخصيات العاقلة البوح بها، فيضع الكاتب كلمات على لسان الأبله الذي يصعب محاسبته بالمعايير التقليدية، وبالتالي يستطيع الكاتب أن يتحرَّر وأن يقفز بأفكاره على لسان وتصرفات الأبله، والأبله تم تناوله في الروايات العالمية أشهرها أبله ديستوفيسكي، وعبيط القرية "الزين" في رواية عرس الزين للطيب صالح، كما تناولت كثيرًا من الأفلام شخصيَّة الأبله، فجاءت على لسانه جُمَل اعتراضية كاشفة وملهمة تُضِيء الأحداث أمام المُتَلقِّي.
عندما تناول حجاج أدول شخصية الأبله في الرواية القصيرة (انتقام الأبله) كان الأبله "سومو" مُغَايرًا، فهو يَحْمِل الطِيبة السَّاذجة التي تؤمن بأفكار تسامح غريبة عن علاقات البشر مع بعضهم، خصوصًا الذكر والأنثى، لدرجة كَسْر كل ما هو مُتَعارف عليه في المجتمع.
"سومو" في رواية انتقام الأبله، يرى العلاقات الإنسانية من منظوره الخاص، بعيدًا عن الأعراف والتقاليد، فهو يستغرب لِمَ يمنعه النَّاس من احتضان "تيماتي" الجميلة؟! فهو يميل لها، وقد شعر بنشوة من ليونة جسدها، قالوا إنها تُحِب "أبيسو" وستتزوجه، فليكن، ما المانع أن يحتضنها هو ويحتضنها "أبيسو" أيضًا، يقول: زواج ضروري، خلاص، أنا أتزوَّج "تيماتي" الجميلة، "تيماتي" الجميلة تحب "أبيسو"، تتزوَّج أيضًا "أبيسو"، هكذا لا مشاكل، لا غضب، لا ضرب، لا خربشات (ص 29).
"سومو" بعد أن كبر ودخل طور المراهقة صار جسده ناضجًا وعقله عقل طفل، لقد أصبح جسده ذكورة خالصة، وهو ليس مسؤولًا عن تصرفاته، طفولة "سومو" المستمرة معه هي مكمن خطورته، حين يمزح معه أحد، يحتضنه "سومو" ويرفعه عن الأرض، فيكاد يخنقه ويعصره، وهو يضحك غير واع بأنه يؤلم من يحمله! الأطفال لم يرحموه، يقذفونه بالطوب ويختبئون، "سومو" لا يطاردهم، فقط يحذرهم أنه سيغضب منهم، وكثيرًا ما يدبِّرون مؤامرات ضده خاصة مؤامرة لعبتهم على الحُب الكبير الذي يكنه "سومو" لجدته، يوهمونه بأن جدته مريضة وتناديه ليلحق بها الآن، فيعدو "سومو" باكيًا لبيته، يجد جدته "رهيسة" بخير، يضحك ويفرح بها ويحتضنها ويحكي بكلماته القليلة أكذوبة الأطفال.
يزداد جسد "سومو" اشتعالًا واشتهاء للنساء، رغبته الحارقة لهن لا تهدأ، فلماذا تمتنع عنه النساء؟! لماذا لا يمكنه أن يحتضن أيًّا منهن سواء أكانت متزوجة أم بكرًا؟! لماذا تصرخ النساء فزعة منه؟! ولِمَ يهرع الرجال والشباب ويبعدونه عن النساء؟! حَتَّى إن "سومو" كان يتعجَّب من "أبيسو" الذي التقط غصن شجرة وهجم عليه وضربه على رأسه بالغصن حَتَّى سال دمه؛ ذلك لأن "سومو" أراد فقط أن يقبِّل حبيبة "أبيسو".
لمَّا تكرَّرت أفعال "سومو" مع النساء بسبب شهوته التي لا تهدأ؛ اجتمع أهل القرية وقرَّروا إن اغتصب "سومو" أي أنثى في القرية، فسيكون جزاؤه الموت، وإن هَاجَم أنثى وحاول اغتصابها، ولم يتمكَّن، فالجزاء يكون بتر عضوه الذكوري جزاءً لمحاولته الاغتصاب، وليَحْموا زوجاتهم وبناتهم.
نَسَت القرية أن "سومو" أبله وأنه لا يستوعب خطورة ما قرَّروه تجاهه، حَتَّى إن الشباب حين حاولوا أن يخبروا "سومو" بحقيقة القرار الخطير الذي صدر ضده ضحك ولم يفهم شيئًا.
فقط ظل يتساءل لماذا يضربونه وهو فقط يحاول أن يحتضن الفتيات؟ حَتَّى إنه فضح أخاه ليلة عُرسه وظل يصرخ: وأنا أيضًا، أنا أيضًا أريد العَرُوس، يا "سلاسو" اخرج، أنا أيضًا أريد (ص 36)، كان يريد نكاح الفتاة التي تزوجها أخوه وضحكت القرية على تصرفاته إلا العجوز الحكيمة "الجريوت" التي صرخت: يا رعب أيامنا القادمة، الفتى "سومو" في احتياج لأنثى، وسيجدها مهما وقفت أمامه القرية كلها، إنها الشَّهوة الفطرية يا ناس (389).
وكأنَّ العجوز تنبَّأت بالفاجعة في الرواية، فقد كان "كمالو" ابن العمدة يحب "تيماتي" التي ذهبتْ لمقابلة حبيبها "أبيسو"، فقابلها في الطريق الخالي وأراد أن يغتصبها، وانتهى الأمر بموتها بين يديه وهو يضغط على رقبتها، والتصقت تهمة القتل والاغتصاب بالأبله، ولم يفكر أحد أن ابن العمدة "كمالو" هو الفاعل؛ لأن الأعرج المتواطئ مع "كمالو" كَذَبَ أمام القرية كلها، وقال إنه شاهد الأبله "سومو" يهرب من مكان الحادثة، والكل يعلم أن "سومو" تَهَجَّم على "تيماتي" مرتين من قَبْل، وصار الأبله صاحب جريمة لم يرتكبها.
ظل "سومو" يردِّد أنه لم يقتل "تيماتي"، لكن القرية مع عدم تأكدها من القاتل قرَّرت أن تقطع عضو "سومو" وتمحو ذكورته إلى الأبد، وهو يردِّد: قرية ظُلم، قرية ظُلم، أنا لا، أنا أقتل "تيماتي"؟ لا، أنا أحب "تيماتي".. "سومو"يقتل "تيماتي"؟ لا (ص50). وظل يدعو على الخمسة الذين كانوا سببًا فيما حدث له: خمسة لازم يموت.. "سلفاي" الأعرج، "كمالو" ابن العمدة، العمدة، "أبيسو"، "هِدْهِدو".. ظل يدعو الآلهة أن تنتقم له من القرية الظالمة، وكانت الآلهة تستمع ل"سومو" البريء ودعواته المُخْلِصَة الصَّادقة.
في أعياد الحصاد التالي، بدأت "الجريوت" العجوز تحكي للناس من ضمن ما تحكي، حكاية الأبله المظلوم "سومو" والقرية الظالمة والانتقام ثم العفو.
ألف ليلة ساحرة ومُغْرِية بعالمها الغرائبي كنبع لا ينضب لكل الحكائين الكبار الذين غاصوا في أعماقها وأخرجوا إبداعًا مغايرًا، فماركيز تلمَّس ألف ليلة وليلة في مائة عام من العزلة، وكذلك فعل نجيب محفوظ، وألفريد فرج كتب مسرحية على جناح التبريزي وتابعه قفة وكثير من الكتاب استعانوا بحكايات ألف ليلة.
عفريت القمقم شخصية مُحَفِّزة للكتابة، ويمكن أن يقع الكاتب في أسره ويخرج بعمل ساذج، إلا أن حجاج أدول أَخْرَج لنا من القمقم عفريتًا مختلفًا، "شوشو" عفريت مراهق (لاحظ أن "شوشو" تدليل لاسم الشيطان وأن تسميته هكذا يوحي بميوعة ما) فهو صغير، ساذج، يمكن أن تضحك عليه دون أن يدري، فهو بين الطفولة والصِّبا، قليل العقل، متهوِّر، لكنه ليس شريرًا، كانت أسرته قد فعلت أمرًا عاقبها عليه سيدنا سليمان.
وهو في الوقت نفسه يمتلك قدرات العفاريت في حدود عمره الصغير، وهو يتصرَّف تصرفات الصغار، فيأتي بحركات إباحية تناسب المراهقين، يبكي عندما تأتي أخته العفريتة وتخبره أن أمه قد ماتت، وحين يأتي ليحقِّق أمنيات الصياد، يحقِّق له أمنيات ضعيفة وفق إمكاناته الصَّغيرة كعفريت مراهق، ثُمَّ إنه يلعب مع الصياد لعبة المخادعة التي لا يلعبها العفاريت، إنه عفريت ظريف، مغاير تمامًا لعفريت ألف ليلة وليلة، عفريت يمكن أن تضحك معه وأن تغضبه، عفريت لا يُخِيف، وربَّما أغراك باستغلال سذاجته، هو عفريت يمر عليه الزمن ويتغيَّر بتغير الوقت، فالصياد عندما وقف ينفض التراب عن ملابسه، لاحظ أن العفريت "شوشو" تغيَّر وازداد طولًا وعرضًا وصار جسده يهتز ببعض اللحم الزائد، اخضر ذقنه وإن كان قد حلقها، ونبت شاربه ناعمًا ممتدًا للجانبين ثم نزل كل من ناحيته لأسفل ذقنه، وصوته صار خشنًا.
"شوشو" يلعب على الصياد ملعوبًا ويوهمه بعد أن كبر بأنه يتيح له فرصة هائلة، في مملكة غنية اسمها مملكة البرقوق الذهبي، ويقنعه بأن الغريب الذي سيدخل هذه المملكة اليوم سيتزوَّج بنت أمير المملكة وسيصير هو الأمير، ونساء هذه المملكة في غاية الجمال عدا امرأة وحيدة.
حين يذهب الصياد ويتزوَّج بنت أمير المملكة يكتشف أن القبيحة هي بنت الأمير، وأنها كالجاموسة، ويكتشف أن شريعة المملكة إذا أنجبت زوجته بنتًا أن يقتل، فيهرب ويترك المملكة، ثُمَّ يتحسَّر بعد أن علم أنه أنجب ذكرًا، فيسيطر عليه الندم ويفكر العفريت في مقالب أخرى للصياد، هذا عفريت مغاير لألف ليلة، عفريت خفيف الظل، حَتَّى إنه يجعلك تحبه.
التعليقات