في مُغامرةٍ دراميَّة مشحونة بالطموحات والتحديات انطلق الملك السومري "كَلكَامش" من بلاد الرافدين بعد صدمته بوفاة صديقه المُقرَّب "إنكيدو" متوجهًا نحو جزيرة "دلمون" التي قامت على ما يُعرف في الوقت الراهن باسم "البحرين وشرق الجزيرة العربية" على أمل اللقاء بالحكيم "زيوسودرا" لعله يعرف منه سر الخلود الأبدي الذي يعصمه من الموت.. ما أن وطئت قدماه سواحل تلك الجزيرة حتى بدأت مُغامرة أُخرى تم تخليدها على اللوح الطيني الحادي عشر من "ملحمة كَلكَامش"، أطول المؤلفات الأدبية في التاريخ الحضاري الإنساني، لتُذكِّر الأجيال بحضارةٍ قامت على أرضٍ أسبغ الإله عليها نعمته وبركاته وخيرات أرضه وسماواته، فتكون موطنًا للسلام والرخاء المُجتمعي والاقتصادي، قبل أن يتم اكتشاف الأختام الدلمونية التي يُرجَّح ظهورها في حقبة دلمون المبكرة خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، فتغدو دليلاً ملموسًا على مظاهر الرخاء تلك، وهو ما حرص الباحث التاريخي البحريني/ محمود عبدالصاحب البقلاوة على توضيحه في كتابِه: "الأختام.. رائعة الثقافة الدلمونية".
الأختام.. والحركة التجارية:
لم تكُن حضارة دلمون معزولة عن الحركة الاقتصادية والثقافية في حضاراتٍ أخرى، بل كانت حريصة على تعزيز الاتصال الثقافي والتبادل التجاري والاقتصادي بينها وبين العالم سامحةً لنفسها بالتأثير فيه والتأثر به، وكان للأختام المدموغة على رقيم طيني بمثابة قفل للسلعة المُنتجة المُصدَّرة وعلامة على جودتها دورًا مهمًا فيه، وهو ما أكده مؤلف الكتاب بقوله: "فالوعي انطلق عمَّا هو داخلي من المعبد وإلى المُجتمع الدلموني حتى طال مُجتمعات أخرى في بلاد وادي الرافدين وبلاد أرض السند وعيلام وسوسة وبلاد فارس وفينيقيا ولبنان وإيبلا في سوريا وغيرها، فانبثقت شرارته في هذا المنحى نشاطًا وإبداعًا وخلقًا، إذ تعايشت خطابات مشاهد الأختام الدلمونية مع حاضنها المزدحم بالدلالات الثقافية ، فتبادلت مع الأثر والتأثير والمؤثر بطريقة ديناميكية.. صـ 43". ويستكمل الفكرة ذاتها في صـ45 في إشارة إلى بعض المُنتجات والسلع الدلمونية التي كانت جديرة بالتصدير إلى الخارج: "في الأختام تبرز دلالات الاقتصاد الدلموني الذي يقوم بالدرجة الأساس على المنتوجات الزراعية، وتقف شجر النخيل باسقات بجانب النشاطات الاقتصادية والصناعية التحويلية بالإضافة إلى العاملات التجارية والملاحة والنقل والصيد البحري مع اعتماد وحدة الوزن الدلموني دوليًا".
الأختام.. والمكانة المُجتمعيَّة:
كان لأماكن العِبادة وطقوسها والشخصيات المقدسة دورًا كبيرًا في الثقافة الدلمونية، ويبدو أن المعابِد كانت تهيمن على جانبٍ لا يُستهان به من تفاصيل الحياة المُجتمعية على تلك الجزيرة، وباعتبار الأختام من الممتلكات القيِّمة معنويًا وماديًا كان لا بد وأن تُصنَّع تحت إشرافه، ويشير الكتاب إلى تلك النظرية بهذه السطور: "وقد كان المعبد هو المهيمن والوسيط والمنظم لإصدار هذه الأختام في عملية مركزية، وقد اكتُشفت العديد من اختام الجاهزة وغير الجاهزة في أحد الغرف في مستوطنة سار، والتي يُعتقد أنها ورشة ومصنع لصناعة هذه الأختام. وتبقى هذه الأختام في تثبيت الملكية وحقوق الأفراد وتنظيم عمليات البيع والشراء والحفاظ على جودة المُنتج ومعرفة مصدره وتصديره.. صـ 45".. كما امتازت كل ختم من الأختام الدلمونية بكونه علامة واضحة على المكانة المجتمعية للشخص الذي يملكه، إذ يُشير المؤلف في صـ47 من كتابه إلى أن بعض تلك الأختام وُجِدت مزينة بأغلفة من الذهب لتعلن عن القيمة الاجتماعية العالية لمن يملكونها في تلك المرحلة الزمنية، وبهذا يؤكد ما جاء في صـ45 من الكتاب حين قال: "إن الأختام الدلمونية تعلن بجانب جماليتها وفنيتها أنها وسيلة تنظيمية في المعاملات والشراء والعلامة التجارية وفي الوقت ذاته على التوقيع الشخصي لأفراد المُجتمع، التي تُميز الذات وتفردها في حراك الفكر الاجتماعي حيث السؤدد والمكانة الاجتماعية المميزة والشخصية الخاصة".
التعليقات