مساء الخميس 24 أبريل وعند تمام انتصاف الليل تغيرت الساعة من الثانية عشرة إلى الواحدة صباحا. كنت في زيارة عائلية واضررت لدخول محطة وقود. تزودت بالكمية المطلوبة وحان وقت الدفع مصحوبا بسؤال العصر الأشهر: كاش ولا فيزا يا فندم؟ لم يكن بحوزتي نقودا فأخرجت بطاقة ائتمان بصورة آلية معتادة. عملية مرفوضة! تعجبت فأخرجت غيرها وجاء الرفض مرة أخرى. أعلم يقينا أن حسابي يكفى لمعاملة بسيطة كهذه فلماذا الرفض. بحثت عن أى نقود في السيارة فلم أجد. سرعان ما تعالت الأصوات من حولي. كل المعاملات عن طريق الكروت مرفوضة. تذكرت شيئا ففتحت رسائل هاتفي:
(عميلنا العزيز، سيبدأ العمل بالتوقيت الصيفي في يوم الجمعة الموافق 25 أبريل 2025، ولذلك سيقوم البنك بتحديث أنظمته لتتناسب مع تغيير التوقيت مما قد يترتب عليه تأثر خدماتنا البنكية بشكل مؤقت بدءًا من يوم الخميس، الموافق 24 أبريل 2025، الساعة 11 مساءً بتوقيت القاهرة الشتوي وحتى يوم الجمعة، الموافق 25 أبريل 2025، الساعة 4 صباحًا بتوقيت القاهرة الصيفي. يرجى التأكد من أن ساعة أجهزتكم تعمل وفقًا للتوقيت الصحيح . شكرًا لتفهمكم). . قبل أداء أي من المعاملات البنكية المتعلقة بالرقم السري المتغير.
هذا تفسير الرفض إذا. أخبرت عامل المحطة بفحوى الرسالة فتعجب لماذا لم يتم إخبارهم رسميا من الإدارة أو من البنوك. توقف العمل وازدحم المكان بالسيارات وظهرت معضلة الدفع فالكل أصبح يعتمد على الفيزا ولا يحملون النقود. تعالت الأصوات من حولي: هل سنظل عالقين حتى استئناف الخدمة في الرابعة صباحا؟ مستحيل!
فكرت في مخرج فالوقت قد تأخر فعليا. اتصلت بأقرب صديقة في المكان وأحضرت لى النقود وتسنت لى المغادرة وأنا أشفق على الآخرين. ليتنى أستطيع المساعدة!
تأملت حالنا وقد أصبحنا نعتمد كلية على الدفع الإلكتروني وتذكرت حوارا مع صديقة تشكو إسرافها وإهدارها للكثير من المال لأنها لم تعد تمسك بالنقود وتعدها ففقدت قيمتها وحرصها المادى. أشترى، أعرف السعر، ثم أخرج البطاقة دون أن أشهر بفداحة ما فعلت ولا أدرك نقصان حقيبتى من المال فحساب البنك غير ملموس.
ألهذا الحد تحكمت فينا التكنولوجيا فتوقف حالنا في لحظة قرر البنك فيها تجميد التعاملات بسبب تغيير التوقيت؟
لم يمض الكثير على هذه الحادثة حتى استيقظنا على خبر تعطل الكهرباء في إسبانيا والبرتغال وغرق الناس في ظلام دامس. توقفت حركة القطارات والطائرات وانقطعت خطوط الاتصالات والإنترنت. لا إضاءة ولا تنقلات. لا هواتف نقالة ولا رسائل صوتية ولا حتى مكتوبة! عاد الناس لاستخدام الشموع وخرجوا من تقوقعهم وبيوتهم الموحشة بحثا عن الونس. جلس الجيران في الشرفات يتسامرون وأجبر الأطفال على ترك شاشاتهم السوداء الميتة إكلينيكيا التي أدمنوها للبحث عن طفولة مفقودة لم يعيشوها يوما قوامها الجري واللعب والانطلاق في ألعاب حقيقية تدخل البهجة عليهم. بعد عودة التيار الكهربي لشبه جزيرة إيبيريا انتشرت المقاطع القليلة التي استطاع الناس تصويرها بما تبقى في هواتفهم من بطاريات مشحونة. أغانٍ وضحكات وجلسات على السيارات والرصفان. لم يكسر سواد المشهد سوى أعين تلتمع فرحا وأسنان بيضاء كشفت عنها ضحكات حقيقية نابعة من القلب.
عاد بي الزمن لأيام فيروس كورونا والشلل التام الذي أصاب الكوكب حينها وليالي حظر التجوال الطويلة. يومها تلاقت وجوه كانت تسكن نفس البيت لأول مرة بعد أن كان الجميع هاربين خارج البيت ليل نهار في العمل أو السمر. اجتمع الجيران للتعارف وانتشرت الدراجات في كل حي فلا مكان آخر للذهاب والترفيه. ارتفع سعرها ونفدت من المتاجر بعد أن كانت تجارة كاسدة في زمن البلاي ستيشن والواقع الافتراضي الذي مكن البشر لا من ركوب الدراجات فحسب بل من اختراق الفضاء وقيادة الطائرات والغواصات. آن أوان تذوق الواقع الحقيقي واختبار الإحساس الفعلي للحركة.
اعتدنا نحن معشر البشر على حياة حديثة أضرتنا وحرمتنا من متع الحياة بقدر ما أضافت لنا الكثير بيد أن اعتمادنا المرعب عليها في حياتنا قد طمس الكثير من المزايا التي تميزنا مثل التفكير الإبداعي والحركة والاعتماد على النفس. لن نستطيع الاستغناء عن التكنولوجيا بل نحن نتوغل فيها أكثر فأكثر بتطبيقات الذكاء الاصطناعي وسيطرته على كثير من مناحي الحياة. لكن لا يجب أن نغفل عن مزايا كثيرة أفلتناها طواعية تارة ومجبرين تارة أخرى عندما استبدلنا (الكاش) بالفيزا!.
التعليقات