تختلف الهزيمة قطعا عن الفشل لأن الهزيمة تأتي غالبا بعد بذل الجهد والعناء في سبيل الانتصار. تتكالب ظروف كثيرة فترجح كفة شيء عن شيء فينتصر طرف ويهزم آخر لا لتقصير منه أو تقاعس بل لظروف أقوى تغلبت على إمكاناته. والفشل على النقيض يأتي نتاجا للامبالاة أو عدم اكتراث من الفرد. نفشل لأننا نسيء الاختيار أحيانا أو لا نحسن ترتيب أولوياتنا أو لأننا لا نعي أهمية الواقع من حولنا ولا نسعى لبذل الجهد المرجو من أجل تحقيق هدف ما هذا إن كان له وجود من الأساس!
جمعني لقاء بمجموعة من الأصدقاء وأبنائهم. كل الرؤوس محنية في اتجاه شاشات مضيئة لا تفارق أناملهم. همهمات تتعالى وأصوات تخرج من الأفواه كما لو أننا بلد آخر. يكتبون بالإنجليزية ويتحدثون بها ونادرا ما يتواصلون بغيرها فيما بينهم بينما تنفلت منهم بعض العبارات العربية فقط عندما يكون الحديث موجها لأحد (الكبار) الموجودين في المكان. حتى من أمسك منهم بكتاب ليقرأه لم يكن بلغته العربية وهز رأسه استنكارا لمن علق بسؤال عن الكتب العربية. جلست بينهم أستمع لمجموعة لا تتغير من العبارات والكلمات التي يتبادلونها حتى من يريد منهم التحدث بالعربية لا يخلو كلامه من الانتقال الفوري بمهارة إلى الإنجليزية فيتبادلون النكات كما لو كانت لغتهم الأم قاصرة عن التعبير.
تأملنا نحن (الكبار) هذا الجيل الهجين الذي لا يشبه من سبقه قولا وفعلا فملابسهم مختلفة ولسانهم وفكرهم وانتماؤهم يتجاوز حدود وطنهم ويمتد لمسافات بعيدة بحثا عن جذور تربطهم دون جدوى. انزوينا نحن الأمهات في ركن قصي نتأمل أحوالنا وأحوالهم وطرح سؤال وجودي فرضته علينا الجلسة: هل هزمنا أم فشلنا؟ هل أخفقنا في التربية أم أن عوامل التغيير كانت أقوى فاكتسحت كل ما زرعنا واجتثت النبتة من جذورها؟!
اعترف بعضنا بالتقصير عندما أعلوا من شأن اللغات الأجنبية ولم يعيروا اللغة والهوية اهتماما ظنا منهم أنها معلومة بالضرورة حينا أو سعيا وراء حضارة براقة خادعة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. اختاروا مدارس أجنبية تماما لا تشكل اللغة العربية فيها حيزا يذكر ويجتاز الطلبة امتحاناتها دون استحقاقا فعلي. يسمع الأولاد الموسيقى الغربية ويشاهدون الأفلام الغربية. يلبسون مثلهم ويتحدثون بلهجات بلادها. يفكرون بهذه اللغة ويدينون للولاء لها ولرموزها. قام بعض أفراد جيل الشباب بعملية استبدال كلية للغة ولم يجدوا إلا التشجيع من الأهل والفخر الزائف فها قد أثمر الجهد وبذل الغالي والنفيس في دفع مصروفات المدارس الدولية التي لا يقدر عليها إلا علية القوم! بدلا من الاستهجان والتذكير بالأصول والجذور رحب الأهل بعملية التغريب المستمرة.
ضرب بعضنا الآخر كفا بكف متعجبين من فشلهم في تحقيق التوازن بين الأمرين. لقد حاولنا الجمع بين الحسنيين بين التواصل الحضاري وبين الاحتفاظ بالهوية والانتماء للجذور. أحضرنا لهم الكتب العربية ولم نتحدث معهم إلا بلغتهم ولغتنا. حدثناهم عن تاريخنا وحضارتنا. حاولنا زرع الانتماء في قلوبهم والاعتزاز بماضي أجدادهم لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن. ركبوا أمواج التغريب وخاضوا مع الخائضين. تماهوا مع المحيطين حتى لا تجرفهم تيارات الوحدة والنبذ من مجتمعات الشباب. وجدوا صعوبة في الثبات أمام المد. استسلموا واستسلمنا. هزمنا لكن لا من تقصير بل من قلة حيلة وهوان.
ترى هل كان من الممكن تدارك هذا الجيل أعجمي النطق غربي الهوى؟ هل تمادينا في النظر في اتجاه حضارات أخرى دون أن نصقل اعتزازهم بكينونتهم وجذورهم التي يتجاوز عمرها عمر ما يبهرهم في الآخر؟! لقد كبر الطفل الذي تباهت به أمه يوما ما لقدرته على نطق الأشياء بغير لغتها وأصبح منعزلا عنها وعن كل ما يمت للأم بصلة لغة كانت أم فكرا!
التعليقات