اعتدنا مؤخرا على رؤية قسم خاص بالخضراوات والفواكه العضوية. في البداية كان شراؤها مقتصرا على طبقة بعينها أطلق الناس عليها اسم الطبقة المرفهة نظرا لارتفاع أسعارها عن غيرها من المنتجات المشابهة. شيئا فشيئا، ومع تزايد الأمراض الناتجة عن المزروعات المعدلة وراثيا وزيادة الوعي بدأ بعض الناس في ترتيب أولوياتهم وإعادة التفكير في أهمية استبدال ما اعتادوا عليه بمنتجات عضوية صحية وخالية من التدخل البشري في الطبيعة.
لكن أن يمتد أمر المنتجات "العضوية" ويتجاوز حدود المأكولات ليصل إلى أرفف الكتب فهذا والله لشيء عجاب! هالني عنوان تصدر أخبار الأدب في إحدى المواقع الإلكترونية لجريدة مرموقة أتابع منشوراتها مفاده: شركة بريطانية ناشئة تتبني أول مبادرة لختم الكتب بشعار (كتبه بشري) أو ما أسموه بالإنجليزية
(Organic Books)
أعدت القراءة بين اندهاش وسخرية. الأمر حقيقي والمبادرة ليست عبثية بل رؤية مستقبلية استبقاية قامت بها مبادرة شبابية بريطانية للفصل بين الكتب المخطوطة بيد البشر عن تلك التي جمعها وكتبها الذكاء الاصطناعي. أصحابها ممن نشأوا في أحضان شاشات منذ نعومة أظفارهم اعتادوا على التكنولوجيا الحديثة وأصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتهم لكنهم ورغم كل هذا يتوقون للبشر وأصالتهم.
أغرقت الكتب المكتوبة آليا الأسواق الإلكترونية والورقية وبات من المستحيل للوهلة الأولى التفرقة بين الجهد البشري والآلي. أصبح كل من هب ودب يكتب في أي شيء وكل شيء ولم لا فالأمر أصبح ميسرا وكل المطلوب هو إدخال بعض الأوامر لأي من برامج الذكاء الاصطناعي وتركه يقوم بالمهمة؛ كاتب لا يكل ولا يمل واسع العلم سريع الأداء زهيد التكلفة.
تاه الجهد البشري الخالص وسط زخم جديد نشر سطوته في كل المجالات بسرعة فائقة ودقة متناهية وتنوع في اختراق كل المجالات التي كانت سابقا تتطلب بحثا وقراءة مستفيضة لسنوات عدة. وجاءت المبادرة لانتشال القارئ من غمار الآلية واللوذ به في يابسة إنسانية خالصة. لا ننكر أن الأمر مذهل ولا يمكن تجاهل فوائده لكن أن يحل الكاتب الاصطناعي محل الكاتب البشري أمر يثير القلق من انقراض حرفة إنسانية بامتياز لا يصب فيها صاحبها أحرف وعبارات جنبا إلى جنب بل يجود بمكنون صدره وخلاصة تجربته ككائن اجتماعي بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.
الإبداع البشري والتفكير النقدي لا يضاهيهما جهد مهما كثرت المحاولات. الكتابة ليست وضع عبارات مصمتة لا حياة فيها. من سيضيف لها الروح ومن سيمنحها المذاق الذي يميزها عن غيرها؟ تناولت أفلام الخيال العلمي سطوة الإنسان الآلي على المستقبل لكننا كنا نتندر ونقول إنه خيال مؤلف جامح ومواضيع للاستهلاك التجاري لكن يبدو أن الأمر لم يعد كذلك.
"كتاب عضوي" ختم الجودة والأمان؛ وشعار الثقة والأصالة وميثاق شرف بشري يحمله ختم تأمل الشركة الناشئة في تطبيقه حتى يثلج صدور الناشرين والكتاب والقراء. "كتبه إنسان"؛ فكرة قد تجد من يؤيدها ومن يعارضها. سيدافع المؤيدون عن رأيهم بأن لا ضير في ذلك ليميز القارئ الكلمة الأصيلة من المفتعلة والمرهفة من المصمتة والمعارضون سيسخرون من التفرقة ويتهمون مؤيديها بالتحيز والاضطهاد بل وربما طالبوا بالمساواة في الحقوق والامتيازات بين الكتاب باختلاف عقولهم النابض منها والمبرمج! ها قد وصلنا لزمن نحتاج فيه للتنقيب عن الجواهر واللاليء لنجمعها ونحتفي بها وننبهر بإنجاز خالص الإبداع لا تشوبه شائبة الميكنة ولا الآلية! وصلنا لزمان نحتاج فيه لضمان قبل أن نترك العنان لعقولنا لتقرأ ولقلوبنا لتتفاعل!
ختم الجودة والنقاء يغادر أرفف المتاجر ليتصدر أغلفة الكتاب فماذا يخبيء لنا المستقبل أيضا في جعبته؟
التعليقات