رحل الأديب النُّوبي المصري أنور جعفر وترك لنا عدداً من الأعمال المهمة، ومن أجمل أعماله المميزة، مسرحية طرفة بن العبد التي استقي أحداثها من عيون التراث العربي وكشف فيها عن قناعته بقوة الكلمة وخلودها وسلطانها الساحر.
تحكي المسرحية عن مجموعة من الفتيان معهم شيخهم داخل زنزانة، يقررون الهرب لأن حاكم هجر أرسل للملك النعمان فيما يفعل بهم، والملك النُّعمان يكرههم كرها أعمي لأنه لن ينسي أبدا ما سلبوه من عير كانت راحلة لأراضيه ولن ينسي كيف سلبوا الرواد بأكبر ماخور في الحيرة وقتلوا الحراس علي أبواب المدينة، فيقررون الهرب ( ما إن ينتصف الليل حتي نهرب، لن تشرق شمس الغد إلا ونكون كما كنا في الصحراء نتقافز كالجن ) ولقد أتموا حفر السرداب وبقيت بضعة أحجار – هي زمن المسرحية – وهذا يذكرنا بأمير الدهاء والهروب الكبير. وفي أثناء حديثهم يسمع صوت وقع أقدام وسلاسل ومزلاج باب حديد يرفع ثم يدفع طرفة بن العبد ويكتشف وجودهم ويسألونه عن نفسه فيتحدث طرفة وكأنه أنور جعفر وكأنه نفس و روح كل أديب حر، يقول:
أنا من أفني أعواما يبحث عن وهم وسراب
في مدن لا يعرف فيها قدر المرء
أنا من أفني أعواما يتآكل ويذوب
وحيدا في ليل شتوي موحش
بحثا عن كلمة صدق
بحثا عن رفقة صدق
ويقول:
أنا من طوف في كل الأمكنة وكل الأزمان
أنشد أشعاري في المنتديات وفي الحانات
أحلم دوما في الحل وفي الترحال
حلما أبدا لا يتبدل
أحلم بالواحات الآمنة الخضراء
أما المجموعة التي لقيها طرفة في السجن فهي مجموعة من المتمردين (تمردنا فخلعنا وتبرأ منا الأهل). يسألون طرفة عن سبب وجوده هنا فيحكي أنه ذهب إلى الحيرة، ثم عاد بصحيفة شؤم تحوي أمر الملك النعمان إلى حاكم هجر أن يقتله.
والحكاية أنه (نهب أعمامه ارثه وأكلوا حقه فهجاهم فخرجوا واجتمعوا عليه ). تأتي ذروة العمل حين يذهب الأعمام الي مندوب الملك النعمان ويخبرونه بجريمة الشاعر : انه يحلم. ويستغرب مندوب الملك النعمان: طرفة يحلم.
فيجيب العم: يحلم بخرافات براقة، أوهام تجتذب الأسماع (وهنا تكمن خطورة كلام العم " يجتذب الأسماع ") ويصدقها الشباب، ستجر علينا الويلات.
فيقرر مندوب الملك النعمان بعد إن يسمع كلام الأعمام أن يترك طرفة كبعير، ككلب أجرب لا يكلمه أحد حتي يعرف رأي النعمان.
وينقلنا أنور جعفر الي المستوي الثاني من المسرح مع طرفة وأصدقائه في مشهد عصري تماما فينقل لنا الحدث التاريخي مشكلة تواجهنا نحن في الواقع. يقول له عقبة: "لا أدري ما جدوي هذا كله انك يا طرفة اعجز من أن تصنع حلمك وأنت لا تملك سيفا أو سلطانا.
فيجيبه طرفة: كلماتي أقوي من كل مناذرة الحيرة، أخلد من كسري والقيصر. يرد عقبة : الشاعر يا طرفة في هذا العصر عليه أن يتملق ذلك الجالس فوق العرش، أن يتملق ويداهن ليفوز بحمر النُعم وذهب السلطان ويقرر طرفة أن يرحل لأنه لا يطيق العزلة ويقرر أصدقاءه بكير وعقبة أن يذهبا للغزو، لكنهما ييأسا ويعودان ويتركاه.
يظل طرفة وحيدا لا يجد غير السراب فيشتاق إلي سلمي ( وهنا أول ذكر لسلمي )، يذهب إليها ويطلب منها أن تهرب معه، لكن سلمي أكثر واقعية منه فتجيبه: أمن أجل حلم أترك الأهل والأحباب يا طرفة، أجلب العار للشيخ و الشيخة. ثم تعترف بأنها استبدلت بالحلم والوهم نعيم النعمان وقصر النعمان وارتضت سلمي أن تكون أَمة في قصر أشبه بالسجن، ثم ترشده بواقعية أكثر إلى سوق عكاظ، فربما كُتبتْ أشعاره بالذهب علي أستار الكعبة، وبالفعل يذهب طرفة فتكتب قصيدته (لخولة أطلال ببرقة ثهمد... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد) وتصبح من المعلقات.
ثم يقرر الذهاب لسلمي فيجدها في حالة جنون مما تعرضت له في القصر، فالملك دللها في الليلة الأولي بيا كلبة العرب وتعرت لطرفة فرأي ندبات كالوشم وخطوط دامية من أثر السياط وطلب الرحيل من النعمان فأعطاه وخاله المتلمس كتبا لابن الحرث، ففض خاله المتلمس رقعته ونجا ورفض طرفة أن يفض كتابا ليس له فسجن، تلك هي القصة.
ويرجع بنا الأديب أنور جعفر مرة أخرى إلى الزنزانة، ويكون الفتيان هناك قد انتهوا من حفر السرداب، لكنه يرفض أن يهرب مع الفتيان معلنا، أن الموت غايته. وتنتهي المسرحية بخروج الفتيان ويبقي طرفة وحيدا في مشهد مؤثر حين يجيئه كل أصدقائه كطيف ناعم رقيق شفاف مضييْ كالحليب وهو يردد:
العشق مسطور
والموت مسطور
العشق مسطور
والموت مسطور
وتنزل الستارة وتبقي في القلب دمعة لا تنتهي.
التعليقات