تبدو الرقابة في عالمنا العربي «شراً لا بد منه»، إلا أن هذا الشر من الممكن ترويضه، وإحالته من سلاح يغتال العمل الفني إلى سياج يوفر له قدراً من الحماية.
بين الحين والآخر، وبحجة الحفاظ على قيم المجتمع، تعلو بعض الأصوات لتنال من فيلم أو أغنية أو مسرحية بهدف المصادرة.
الرقيب عليه أن يمتلك ميزاناً من ذهب للمواءمة بين حرية الإبداع والجرأة في مواجهة أصحاب العقول المتحجرة الذين يزدادون شراسة كلما خضعنا لهم.
ينتظر المبدعون في مصر تعيين الكاتب الدرامي عبد الرحيم كمال في الأيام أو ربما الساعات القليلة القادمة، رقيباً على المصنفات الفنية. صرح بذلك وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو. في السنوات الأخيرة، ضاقت رؤية الرقابة وصارت المصادرة دون مناقشة هي السلاح الباتر، ومع تكراره بات المبدع، أخذاً بالأحوط، يبتعد مع سبق الإصرار عن المناطق الشائكة. وهكذا نرى أعمالاً فنية لا تمشي فقط بجوار الحائط، ولكنها من فرط تحفظها تمشي داخل الحائط، مبتعدة عن التشابك مع أحداث المجتمع. الكل ينتظر انفراجة رقابية قادمة بعد أن تكدست العديد من المشروعات الدرامية على مكاتب الرقباء. هل يعيد كمال زمن الكاتب الروائي الكبير نجيب محفوظ الذي تولى المسؤولية الرقابية نهاية الخمسينات، وكان قادراً على مواجهة عقول عدد من موظفي الرقابة التي تصلبت مع الزمن، وصاروا يتوجسون من كل شيء؟ أشهر أزمة تغلب عليها نجيب محفوظ برشاقة هي «يا مصطفى يا مصطفى»؛ أغنية «فرانكواراب» حققت شهرة عالمية بصوت المطرب بوب عزام، غناها العديد من المطربين في العالم، ولا تزال. تقدم الموسيقار الكبير محمد فوزي ملحن ومنتج الأغنية إلى الرقابة عام 1959 للتصريح بها، اعترض أحد موظفي الرقابة؛ اعتبرها تحمل معاني رافضة لثورة 23 يوليو (تموز) 52، مستنداً إلى أن المقصود بـ«مصطفى» هو مصطفى باشا النحاس رئيس الوزراء الأسبق في أواخر زمن الملك فاروق، كما أن مقطع «سبع سنين في العطارين... وانت حبيبي يا مصطفى» يؤكد ذلك؛ إذ كان قد مضى على ثورة 52 سبع سنوات بالتمام والكمال.
توجه محمد فوزي بالشكوى إلى نجيب محفوظ مباشرة الذي صرح بالأغنية فوراً، وسخر من الرقيب الرافض للأغنية قائلاً: «لو مرت ثماني سنوات وليس سبعاً على الثورة، هل تجاز الأغنية؟!». نوع من القراءة المتعسفة والمتوجسة للنص الغنائي، وهو ما تجد له تنويعات متعددة في العديد من المواقف المماثلة التي حالت دون خروج عشرات من الأعمال الفنية للنور.
نجيب محفوظ كثيراً ما تعرضت بعض أعماله الروائية التي صارت أفلاماً لتعسف رقابي، مثل «الكرنك» و«المذنبون» و«قلب الليل»، وغيرها. وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تدخل الرقيب لمنع عرض الفيلم القصير «آخر المعجزات» للمخرج الشاب عبد الوهاب شوقي من العرض في افتتاح مهرجان «الجونة». الفيلم مأخوذ عن قصة قصيرة؛ «المعجزة» في مجموعة نجيب محفوظ «خمّارة القط الأسود»، بسبب أيضاً قراءة خاطئة للرقيب.
كثير من الآمال ترددت مؤخراً بانفراجة أكثر رحابة في القادم من الأيام، وينتظر كُثر أن يعيد الرقيب عبد الرحيم كمال قراءة النصوص المرفوضة، وأيضاً الأفلام الممنوعة من العرض ليتنفس الجميع الحرية. أعلم قطعاً أن هناك حواجز شاهقة سيجدها الرقيب عليه أن يقفز فوقها تباعاً، ولديّ في نفس الوقت ثقة بأن عبد الرحيم كمال الذي كثيراً ما عانى من الرقابة، سوف يتمكن من فتح ثقب من النور داخل هذا الجدار الصلد.
التعليقات