في كل مرة أقرأ فيها قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة: 62"
يجيش في صدري سؤال كبير: كيف ضاقت بنا سعةُ رحمة الله؟ وكيف سمحنا لأنفسنا أن نُقسّم الناس تقسيماً أُحادياً جامدًا، وكأننا نملك صكوك الغفران؟
إنَّ الإسلام الذي نزلَ به الوحيُ على قلبِ محمدٍ ﷺ لم يكُن يومًا سيفًا يُشرَّعُ في وجهِ المختلف، ولا سجنًا تُحْبَسُ فيه رحمةُ اللهِ عن عبادِه. إنه نداءٌ كونيٌّ يهتفُ بالتوحيدِ لتتطهرَ القلوبُ من أوثانِ التعصب، ويُنادي بالبِرِّ لِتَعُمَّ العدالةُ كلَّ الأكوان، وبالرحمةِ لِتُغَسِّلَ جراحَ الإنسانية. فكيف نُحَوِّلُ هذه الدعوةَ السماويةَ إلى محكمةٍ بشريةٍ تحكمُ على الناسِ بالجحيمِ لمجرّدِ اختلافِ هوياتهم؟!
الكافر والمشرك: هل هما الآخر فقط؟
كثيرًا ما تُستَعمل كلمتا "كافر" و"مشرك" وكأنهما اسمان جامدان يُطلقان على الآخر المختلف، وقلّما نتأمل معناهما الدقيق لغويًا وقرآنيًا. ففي اللغة، الكفر هو الستر والتغطية، وهو لا يختص بدين دون آخر. وقد نجد كفرًا لنعمة، أو كفرًا سلوكيًا، أو جحودًا للحق يقع فيه المسلم وغير المسلم. وقد سمّى القرآن من يُخفي الشهادة كافرًا، ومن ينافق كافرًا، مع أنهم في الظاهر مسلمون.
أما الشرك، فليس فقط عبادة الأصنام. بل يشمل الشرك في النية، وفي الطاعة، وفي التعلق بغير الله، وقد يكون خفيًا، كما حذر النبي ﷺ من الشرك الأصغر: الرياء. فهل الشرك محصور في غير المسلمين؟ كلا، بل قد يشرك المسلم وهو يظن أنه موحد.
إذن، ليست "كافر" ولا "مشرك" حكرًا على أحد دون أحد، بل هما أوصاف تنطبق على من قام بهما، لا على من وُلد في ملة دون أخرى. بل الأسوأ من ذلك أن بعض المسلمين قد يستبطنون في أنفسهم ما ينقض أصل الإيمان، وهم لا يشعرون. فقد يكفر المرء بنعمة الله، أو يُشرك في الطاعة، أو يُقدم الهوى على النص، وهو يظن أنه على الجادة. وهذه حقائق يجب أن توقظ فينا التواضع والتفكر، لا الغرور الديني.
من هو "المسلم"؟ إعادة نظر في مفهوم كلمة "مسلم" التي هي بالتأكيد ليست بطاقة هوية، بل صفة قلبية وسلوكية. المسلم هو من استسلم لله وأطاعه، لا من حمل الاسم فقط. والإسلام كما دل عليه القرآن، درجات ومستويات، له حد أدنى وحد أعلى.
الحد الأدنى دلّت عليه آيات:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة: 69) و (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" ( (البقرة: 62) – يتكوّن من ثلاث ركائز أساسية أولاها الإيمان بالله الواحد الخالق، وثانيها الإيمان باليوم الآخر، وثالثها العمل الصالح .
من جاء بهذه الثلاثة، فقد ضمن له الله أجره وأمنه. أما الحد الأعلى، فهو الإيمان بالله وملائكته وبجميع الرسل، والكتب، ، والقدر، والإخلاص التام في القول والعمل. الحد الأعلى ارْتِقَاءٌ إِلى فُسْحَةِ الإِيمَانِ الكَامِل، حَيثُ يُصَدِّقُ القَلبُ بِمَلَائِكَةٍ لا تُرَى، وَكُتُبٍ تَنْزِلُ بِالحِكْمَة، وَرُسُلٍ تَحْمِلُ مَشَاعِلَ الهُدَى، وَقَدَرٍ يَكْشِفُ حِكْمَةَ الِاخْتِبَار. هُنَا يَتَحَوَّلُ الإِسلَامُ إِلى مَنظُومَةٍ وَجَدَانِيَّةٍ تَسْكُبُ الإِخلَاصَ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكَنَة.
لَكِنَّ الأَهَمَّ أَنَّ "المُسلِم" الحَقِيقِيَّ لَيسَ مَن يَتَبَاهَى بِالعُنْوَان، بَل مَن يَعْرِفُ أَنَّ التَّوحِيدَ اخْتِبَارٌ يَوْمِيٌّ: هَل أَنَا أَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسمَ فِي سَرِيرَتِي كَمَا أَدَّعِيهِ فِي عَلانِيَتِي؟! فَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى القُلوبِ، لا عَلَى الأَلْقَاب.
فالإسلام ليس قالبًا صلبًا واحدًا، بل مظلة تتسع لمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، مهما كانت خلفيته أو قوميته. ويكفي أن نتأمل في سورة الحج، حين يقول تعالى(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ )، لندرك أن الهوية الإسلامية ليست حكرًا على أمة أو جيل.
إن المسلم قد يضعف، وقد يقع في الذنب، لكنه لا يخرج من وصف الإسلام ما دام مستسلمًا لله، مقرًا بوحدانيته، عاملًا للصالحات، تائبًا إذا أخطأ، مخلصًا إذا عمل. وليس كل من قال "لا إله إلا الله" صادقًا بها، وليس من لم ينطق بها بالضرورة معاديًا لها. فكم من إنسان لم تصله الرسالة كما نزلت، وكم من إنسان عرف الله بفطرته، ولم يمنعه سوى تعصب بيئته أو تحريف دينه أن يصل إلى الحق كاملاً، وهذا أمر مرده إلى الله.
إذن: إذا أردنا أن نتساءل: بأي حق نحكم على إنسانٍ ما بأنه من أهل النار أو من أهل الجنة؟ فإن الجواب الصريح في كتاب الله(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ (الأنعام: 57
نحن – كبشر – لا نملك إلا أن نحكم بما يظهر من الناس، من سلوكهم، من تعاملهم، من مدى إعمارهم للأرض، وعدلهم مع الناس. أما السرائر، فموكولة إلى من يعلم السر وأخفى. الله سبحانه وتعالى لم يجعل لنا وسيلة للحكم على القلوب، بل علّمنا أن الحكم يكون بالعمل: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا (الأحقاف: 19
(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (الليل: 4–7
الإنسان يُعرف من مواقفه، من إنسانيته، من عدله ورحمته وإسهامه في عمارة الأرض. وفي مجتمعاتنا الدنيوية، لا يُعامل الناس بحسب مللهم، بل بحسب أفعالهم. المواطن الصالح محترم، والمجرم ملاحق، بصرف النظر عن دينه. فلماذا ننقلب على هذه الآلية الربانية في أخطر مواضع الحكم؟
هذا الفهم ليس فقط من مقتضيات العقلانية الاجتماعية، بل هو لبّ الدين الذي يأمر بالعدل. فلا مكان للحكم على القلوب والنوايا، بل على العمل الصالح ومدى تسليم الإنسان لإرادة الله في عمارة الأرض، وإصلاحها لا إفسادها.
لا أحد يحتكر مفاتيح النجاة
دعونا نواجه الحقيقة: لسنا وكلاء الله في الأرض. لا أحد، مهما بلغت درجة تدينه، يملك مفاتيح الجنة أو النار. فنحن نرجو النجاة لأنفسنا وندعو الناس إلى الخير، لكن لا يحق لنا أن نحكم بالهلاك الأبدي على من خالفنا.
إذاً النجاة مرتبطة بمدى الصدق في التوجه إلى الله، ومدى تحقيق الإنسان لقيم الخير والعدل والرحمة. والإيمان ليس شعارًا يُرفع، بل جوهر يُعاش. وقد بيّن القرآن أن الفلاح في الدنيا والآخرة لمن زكّى نفسه، لا لمن انتسب إلى طائفة. فمن الخطأ أن نخلط بين الولاء الديني – وهو أمر تعبدي خاص – وبين التقييم الأخلاقي والاجتماعي للبشر. لا القرآن ولا السنة يخولان لنا الحكم على مصير أحد، بل قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (النمل: 78
ومن هذا المنطلق، فإن الجدل حول مصائر الآخرين هو عبث لا طائل تحته، لأنه ببساطة يتجاوز اختصاصنا كبشر، ويدخل في شأن إلهي صرف لا يملكه إلا العليم الخبير.
الترحم على البابا فرنسيس قضية تكشف أعطابنا الفكرية، فقد تكررت الاعتراضات على من يترحم على البابا فرنسيس، بحجة أنه غير مسلم، وكأن رحمة الله حكرٌ لا يُمنح إلا بتصريح. هذه النظرة تُنافي القرآن الذي يدّعون اتباعه.
أليس الله قد قال(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (المائدة: 82)؟
أليس هؤلاء هم من وصفهم القرآن بالمودة والتواضع؟ فلماذا نضيق بما وسّعه الله؟ ولماذا نحجب عنهم دعاءً برحمة من رب هو أرحم الراحمين؟
البابا فرنسيس – في نظر كثيرين – كان من الداعين إلى السلام، ومن الناهين عن الظلم، ومن المتواضعين الذين لا يزعمون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة. رجل عاش للسلام، وخدم الإنسانية، وخفف الألم عن الضعفاء، فكيف لا نترحم عليه؟ إن الدعاء بالرحمة ليس إعلانًا بالعقيدة، بل رجاء بفضل الله لعبد من عباده، والله يقول: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف: 156
بل إن الرحمة هي الأصل، والعذاب هو الاستثناء، والله يرحم من يشاء. فمن نحن حتى نتحكم في أبواب الرحمة أو نغلقها؟ فرحمة الله على البابا فرنسيس، وعامله الله بعدله ورحمته، وهو أعلم بعباده، وأعدل في حكمه منا.
من حقنا أن ندعو إلى ديننا، ونعتز به، ونرى أنه طريق النجاة الأكمل. ولكن ليس من حقنا أن نُحكم على الناس بالهلاك، وكأننا خلفاء الله في الحساب. لنعُد إلى القرآن، ونقرأه بعيون المحبة، لا بعين الإدانة. ولنترك الحكم لله، فهو أرحم بعباده منا (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (النمل: 78
هذا المقال محاولة لردم فجوة بين فقه الدعوة وفقه الرحمة، وبين الغيرة على الدين والجهل بحدود النفس البشرية. فليكن حوارنا مع الآخر مبنيًا على النور لا على النار، على الحكمة لا على الحكم، وعلى الحب لا على الاحتكار.
التعليقات