الفرح أن تعتاد روحك الحزن والسواد، هي كعقدة ستوكهولم؛ تصبح أسيرا لحزنك المعتاد فقد ألفته وألفك، تعلم متى يحل عليك وكيف تتعامل معه وتودعه بانتظار لقاء جديد، فهو رفيقك الذي لا يكاد يفارقك حتى يعود إليك مشتاقا.
السعادة قرار، ما أسهل الكلام إلا أن الفعل مختلف، من منا لا يرغب بالسعادة، يا للأسف ففي تخيلاتنا للسعادة نحرص على أن نربطها بأمور إن حصلت صرنا سعداء، وأشخاص إن أتوا، أتى الفرح معهم، وهكذا إلى أن تفقد السعادة معناها الحقيقي، والذي أظن أنه الرضا والطمأنينة والحمد لله وإدراك لطف أقداره مهما بدت لنا على نقيض من السعادة.
ومالي أطرد فرحًا يدق أبواب قلبي، مالي أخاف أن أشرع له الأبواب، أهو الوفاء والولاء لحزني القديم الدائم، أهي رغبتي في أن تكون السعادة كما تخيلتها أو أتخيلها؟ أهو العجز عن الرضا بقضاء وحكمة الله.
أما كنت لأبحث عن أسباب أخرى للحزن لو كان كل ما يستدعيه الآن غير موجود! أظن أنى كنت لأفعل، لا سبب حقيقي للحزن أو طرد السعادة سوى التعلق بما أعرفه.
أعرف حزني ويعرفني، بيننا عشرة طويلة، بيننا من الذكريات والأيام ما يجعل أحدنا يطمئن للآخر، مالي أنا وهذه السعادة الوليدة؟ كنت أتخيلها نعم، ولكني ما ظننت يومًا أن تأتيني، كيف لي أن أثق فيها! أأخون حزني! وماذا إن وثقت بها وصدقتها، فهربت مجددًا! أليست هذه عادتها؟ تطل برأسها في عتمة الأيام، وسرعان ما تهرب، فيقترب الحزن مواسيًا، يربت على قلبي ويهمس في أذني: ألم أقل لك بأني صديقك الوفي الوحيد، إني رفيقك الذي لن يغادرك تحت أي ظرف، مولاك الذي ما أن يستشعر حاجتك حتى يسارع ملبيًا رغبتك في الانعزال والوحدة والبكاء. لم ولن أتخلى عنك، أنا قدرك ونصيبك.
إضاءة: الحزن ما هو إلا شيطانك يراودك عن فرحك وسعادتك...
خطت أناملها تلك الكلمات، وأنا الذي أعرفها معرفتي لنفسي وذاتي، أعجبتني الكلمات والفكرة، وقد طرأت على فكري الآية القرآنية العظيمة:( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) وهي تكتب خاطرتها تلك، فصرخت مندهشة هذا ما كنت أبغ، هذه الآية هي التي أريد.
ذكرتني بأنها كانت سابقًا تتألم من وضع وظروف وجدت نفسها بها، وكانت تدعو الله مخلصة بأن يعطيها ما يغنيها عن تلك الظروف، وما أن وجدت نفسها تسبح في عطايا الله، حتى بدأت نفسها تحدثها بأن تلك النعم ينقصها الكثير من الأشياء لتمنحني السعادة، تلك النعم لو وجدت بصورة أخرى لكانت أفضل لي، تلك النعم زائلة لا ثقة في استمرارها وأنها ستعود إلى سابق عهدها بالحزن، التوجس والخيفة، الترقب وخوف السقوط، كل ذلك يجعلها لا تستطيع الاستمتاع بلحظة سعادة بتلك الأشياء التي كانت تدعو الله بها.
أخبرتها بأنك يا صديقتي لست متفردة في ذلك الأمر، فمن طبع الإنسان أنه في حال احتياجه يطلب من الله أقل القليل ليرضى، وما أن ينعم عليه الله بأكثر مما طلب حتى تتطلع عينه إلى الأكثر، فلا يطاله من ذلك إلا التعاسة والإعراض عن السعادة التي تتجلى في الرضا. جميعنا كذلك بدرجات متفاوتة، جميعنا أمرنا مدهش لأننا كثيري الشكوى، كثيري العتب، دائمًا ما نرى أنفسنا مستحقين لأن نكون في حال أفضل من حالنا تلك، ولا ننظر إلى ما مضى من عمرنا، وكيف كان وإلام صار، لا نعطي لأنفسنا الفرصة لنتدبر ونتفكر حين كنا نتمنى أن نكون فيما نحن فيه الآن، وإن فعلناها ونظرنا إلى ماضينا، فلن تتركنا نفسنا دون عزو كل ما وصلنا إليه إلى علمنا وقدرتنا وحسن تدبيرنا!
وهذا الأمر من أحوال النفس البشرية، تختلف درجته من نفس إلى أخرى، فهناك من يذكر كيف كانت حاجته، وكيف كان احتياجه، وبمجرد تذكره لهذه الأمور يشكر النعم التي أنعم الله بها عليه، ويكون من صور شكرها أن يحافظ عليها ولا ينسبها إلى نفسه إلا بقدر توفيق الله له لذلك.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، صورًا كثيرة من صور وحالات النفس البشرية، منها هذه الآية المحكمة التي يقول فيها المولى عز وجل:
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ.
أنعمنا على الإنسان أي أعطيناه أكثر مما طلب وتمنى من نعم عظيمة، والإنعام يكون عطاء فوق التمني، الإنعام عطاء الكريم الأكرم الذي لا يمنّ بفضله.
ماذا يكون رد الفعل من ذلك الإنسان؟ أعرض، والإعراض ضد الإقبال، الإعراض هو التجاهل وعدم الاكتراث، هو الصدود بعد القبول، الجفاء بعد اللين، إدارة الظهر بعد الإقبال بالوجه. وهو أبلغ ما يكون في التعبير عن نكران الفضل والغفلة عن الشكر.
أظن أن أمر شكر النعمة هناك واجب، ومبدأه الرضا بما وصل إليه الإنسان بتوفيق الرحمن، وليس معنى الرضا أو نسبة الأمر إلى توفيق الله سبحانه أن يكتفي الإنسان بما وصل إليه من نجاحات، لكن الهدف الأسمى والأعظم في معالجة القرآن لذلك الأمر ألا يصاب الإنسان بتعاظم النفس حتى يصل إلى مرحلة (إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ) وينفي كل فضل وتوفيق وتدبير للأمور عن الذات العليا سبحانه وتعالى. وألا يصل في نفس الوقت إلى الارتكاز لما هو فيه والإحساس بالعجز وأن هذا مبلغه من الرزق.
رزقنا الله وإياكم الرضا بما قسمه الله لنا، والإعانة منه سبحانه على ذكره وشكره وحسن عبادته.
التعليقات