قلت للسيدة نظيمة مديرة مكتبه: أريد أن أقابل الأستاذ!
سألتني: هل لديك موعد معه؟
قلت: لا .. ولكني شاعر أتيتُ من الإسكندرية .. وأريدُ أن أقابله.
ابتسمت وقالت: أنا لدي تعليمات من الأستاذ أن أي شاعر يريد أن يقابله يدخل على الفور.
وفتحت لي باب حجرة مكتبه وقالت: تفضل.
دخلتُ مكتب الشاعر صلاح عبدالصبور بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وكانت أول مرة أقابله وجهًا لوجه.
قبلها مررتُ على مكتب صديقي الشاعر محمد أبودومة وأهديته نسخة من ديواني الأول "مسافر إلى الله" فتصفحه، وسألني: أهديتَ نسخة للأستاذ صلاح؟
قلت له: لا ..
قال: لا بد أن تهديه نسخة، هو الآن في مكتبه، اطلب مقابلته وستدخل فورا.
سألته: ألن تأتي معي؟
قال: لا .. ولكن الأستاذ سيقابلك على الفور، فهناك تعليمات لدى مديرة مكتبه أن تدخل أي شاعر، دون سابق ميعاد.
ثم أضاف: مرّ علي بعد أن تقابله.
لم أصدق نفسي أنني في مكتب الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور بهذه السهولة، ولحسن الحظ لم يكن أحد من الزائرين في مكتبه.
دخلت الحجرة الواسعة وتقدمت خطوات إليه، فقام من على كرسيه، وصافحني، ذكرت له اسمي مضيفا: شاعر من الإسكندرية. فقال: أعرف اسمك، ولكنني أول مرة أراك. فقلت: لي الشرف.
كنت أكتب قبل لقائي بالشاعر صلاح عبدالصبور في مجلة "الجديد" التي يرأس تحريرها الدكتور رشاد رشدي، كما كنت أنشر بعض قصائدي في مجلة "الكاتب" التي كان يرأس تحريرها صلاح عبدالصبور. ولكن تعاملي كان مع الدكتور علي شلش الذي كان يزورنا في في قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية، فنتحلق حوله ويأخذ منا قصائدنا وقصصنا ومقالاتنا، وينشرها في أقرب الأعداد التي تصدر بعد عودته من الإسكندرية.
ويبدو أن شاعرنا صلاح عبدالصبور قرأ اسمي في إحدى المجلتين، وتذكره حين ذكرته في تلك المقابلة الأولى.
أخرجت من حقيبتي الجلدية نسخة من ديواني الصغير "مسافر إلى الله" وكتبت إهداء مازلت أتذكره حتى الآن، أقول فيه: "إلى شمس الشعر العربي المعاصر الشاعر الكبير الأستاذ صلاح عبدالصبور".
قرأ صلاح عبدالصبور الإهداء فور تسلمه النسخة وابتسم وشكرني. وسألني: لماذا لم تطبع الديوان في الهيئة. ابتسمت قائلا: سيأخذ وقتًا طويلا وطابورا من الانتظار.
كنت قد طبعت "مسافر إلى الله" على نفقتي الخاصة من خلال إصدارات فاروس للآداب والفنون تلك الجماعة التي قمنا بتكوينها في الإسكندرية عام 1979. وعرف الشاعر الكبير وقتها إننا أدباء وشعراء وفنانون نملك طموحا كبيرا، وأننا نطبع كتبنا خارج الدوائر الرسمية وأثنى على ذلك، وقال: مشكلتنا فعلا في الكتب الكثيرة التي تقدم لنا لطباعتها بالهيئة، ومعظم أصحابها يريدونها أن تصدر فورا.
فتح الشاعر صفحات الديوان الصغير وشرع في القراءة، فلم أشأ ان ألاحقه بالأسئلة والطلبات، فصمتُ، وأخذ يقلب في الصفحات، وحمدت الله أنه لم يدخل علينا أحد من الزوار أو مديرة مكتبة نظيمة (السمراء) وقلت إنها فرصة ذهبية أن يقرأ لك الشاعر صلاح عبدالصبور وأنت في رحاب مكتبه الواسع.
بعد لحظات الصمت فاجأني الشاعر الكبير بسؤال: هل قرأت لفريد الدين العطار وسعدي الشيرازي؟ أجبته: بصراحة لا .. قال: عليك بهما فسوف تستفيد من تجربتهما الشعرية.
خلال هذه الدقائق المعدودة من قراءة بعض قصائد "مسافر إلى الله" لاحظ صلاح عبدالصبور اتجاها صوفيا في قصائد ذلك الديوان الصغير، فكانت نصيحته الغالية بقراءة أقطاب التصوف.
لكن ما دار في ذهني ولم أشأ أن أسأله عنه كان الحلاج الذي كتب عنه مسرحيته الشعرية الذائعة الصيت "مأساة الحلاج" والتي قرأتُها قبل مقابلته في أوائل الثمانينيات. لماذ لم ينصحني صلاح عبدالصبور بقراءة "الحلاج" و"ابن عربي"؟
وعدتُ الشاعر الكبير أن اقرأ العطار والشيرازي، وقلت له: لقد قرأت "مأساة الحلاج" فابتسم. وقال لي: إذا كان لديك مجموعة شعرية جديدة أحضرها على الفور في مكتبي.
اتسعت عيناي من الدهشة ومن الطلب المفاجئ، وهو ما لم أكن أحلم به في تلك المقابلة، ويبدو أنني خفت أن يتراجع الشاعر الكبير عن طلبه، فقلت له وأنا استعد للانصراف: أخشى أن أكون قد أطلت في زيارتي الأولى لحضرتك. فقال مبتسما: لا لم تطل.
سلمت عليه وغادرت مكتبه وأنا مخمورا من طلبه بأن أتقدم بديوان للهيئة، وهو ما يعني أن شعري نال استحسانه.
شكرت السيدة نظيمة مديرة مكتبه، التي هبت واقفة لتصافحني وتدخل مسرعة إلى مكتب الأستاذ، وكأن المقابلة كانت مقابلة خاصة.
ذهبت إلى صديقي الشاعر محمد أبودمة في مكتبه، فقرأ على وجهي إمارات السعادة، وحكيت له ما حدث بيني وبين الأستاذ، فقال لي: لهذا طلبت منك أن تذهب إليه بمفردك.
لم يكن لدي عدد وافر من القصائد التي تشكل ديوانا شعريا يصدر من الهيئة بطلب من رئيسها، لذا فكرت أن أصدر ديوانا مشتركا مع صديقي الشاعر عبدالرحمن عبدالمولى، وبالفعل اخترنا عنوانَه "عصفوران في البحر يحترقان" وكتب مقدمة له الشاعر الصديق أحمد سويلم، وتقدمنا به لمكتب الأستاذ، لكنه لم يكن موجودًا وقت زيارتي الثانية مع عبدالرحمن عبدالمولى، فتركناه لدى مديرة مكتبه نظيمة.
وكان اللقاء الثاني بالشاعر صلاح عبدالصبور في الإسكندرية حيث أُعدت له ندوة كبيرة بقصر ثقافة الحرية، وبعد أن ألقى بعض قصائده، فُتح باب النقاش مع جمهور الأدباء الذين غصت بهم القاعة الكبيرة (التي سميت فيما بعد باسم توفيق الحكيم الذي رحل عام 1987) وطلبتُ الكلمة فأعطاها لي مدير الندوة، (ويبدو أنه كان الشاعر السكندري عبدالمنعم الأنصاري) وقمت بالتعريف باسمي وأخبرت الشاعر الكبير بأنني وصديقي الشاعر عبدالرحمن عبدالمولى تركنا نسخة مخطوطة من ديوان بعنوان "عصفوران في البحر يحترقان" لدى مديرة مكتبه يوم كذا، وكان الشاعر يسجل ما أقوله في ورقة على المنصة. ووعدني أنه سيبحث هذا الموضوع فور عودته إلى القاهرة.
وعاد صلاح عبدالصبور إلى القاهرة، لنفاجئ بعد عدة أسابيع قليلة بخبر وفاته في 13 أغسطس 1981. وليظل ديوان "عصفورا في البحر يحترقان" خمس سنوات في غياهب أقسام الهيئة المصرية العامة للكتاب إلى أن صدر عام 1986.
التعليقات