لا بد أن أعترف بداية أنني ابن شرعي لقصور الثقافة، وخاصة قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية، الذي انضممت إلى كتيبته الأدبية في منتصف السبعينيات، فكنت أحضر يوم الأحد في نادي الشعر، والاثنين في نادي القصة، والثلاثاء في نادي المسرح، والأربعاء في نادي النقد الأدبي، والخميس في نادي السينما، والجمعة أتجول بين اللوحات والتصاميم والتماثيل في قاعة الفن التشكيلي، قاعة سيف وانلي الذي التقيته غير مرة قبل وفاته في عام 1979، وأحيانا كنت أشارك في فصول تحسين الخطوط التي يقدمها فنان الخط العربي خليل بدوي.
كان المشرفون على تلك الأندية داخل قصر ثقافة الحرية يستضيفون كبار الشعراء والأدباء والنقاد والفنانين سواء من داخل الإسكندرية أو من القاهرة، وبعض المحافظات الأخرى. وكنا نلتقي أسبوعيا بالشعراء عبدالمنعم الأنصاري ومحجوب موسى وعبدالعليم القباني ومحمود العتريس وادوار حنا سعد وفوزي خضر وصبري أبو علم، وكتَّاب القصة والرواية إبراهيم عبدالمجيد وسعيد سالم ومصطفى نصر وسعيد بكر ومحمود عوض عبدالعال ورجب سعد السيد وعبدالله هاشم وأحمد حميدة وغيرهم. وكانت هناك موظفة ثقافية نشيطة جدا اسمها عواطف عبود، وكان يرأس قصر ثقافة الحرية في ذلك الوقت ا. محمد غنيم، ثم جاءت بعده السيدة وسام مرزوق، فسارت على النهج نفسه.
كان قصر ثقافة الحرية يصدر مجلة اسمها "الكلمة" يرأس تحريرها الدكتور السعيد الورقي، وننشر فيها أعمالنا، فضلا عن مجلة "أمواج" التي كان يصدرها مجلس الثقافة بالإسكندرية ويرأس تحريرها د. محمد زكي العشماوي، ثم صدرت مجلة "نادي القصة" ومجلة "عكاظ" التي توليتُ رئاسة تحريرها.
كان قصر ثقافة الحرية يحتضن كل أدباء الإسكندرية وكتَّابها ومثقفيها وزائريها ومحبيها، هناك تعرفت إلى أمل دنقل وفاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبوسنة وأحمد سويلم وفاروق جويدة، واستمعت إلى محاضرات د. زكي نجيب محمود، وصلاح عبدالصبور ود. محمد مصطفى هدارة وغيرهم.
ثم بدأ أبناء جيلي يترددون على قصر ثقافة الأنفوشي، ثم الشاطبي، وأحيانا قصر ثقافة القباري. لم يكن هناك وقتها بيوت الثقافة الموجودة في شقق صغيرة كما هو الحال الآن. ولم يكن هناك ما يسمى رئيس مجلس إدارة نادي الأدب, أو نادي الأدب المركزي، وعلى الرغم من ذلك كانت الاستفادة الثقافية عظيمة جدا.
ذهبتُ إلى العمل خارج مصر بعض السنوات، وعندما عدت وجدتُ شققًا صغيرة تسمى أحيانا قصور ثقافة وأحيانا بيوت ثقافة، وتحوَّلت "الثقافة الجماهيرية" إلى مسمى "الهيئة العامة لقصور الثقافة"، ودخل قصر ثقافة الحرية الذي نشأتُ فيه في عمرة وتطوير كبير ثم تحول إلى مسمى مركز الإبداع، وتحولت تبعيته إلى صندوق التنمية الثقافية بدلا من هيئة قصور الثقافة. وعلى الرغم من مشاركتي في أنشطة هذا المركز حتى الآن، إلا أنني أحس دائما بغربة شديدة في هذا المكان الذي تربيت ونشأت فيه.
أما عندما أذهب إلى تلك الشقق التي سُميت باسم بيوت الثقافة فإنني لم أجد الخدمة أو المناخ أو الحميمية التي كنتُ أجدُها في قصر ثقافة الحرية، ولم أجد الموظف أو الموظفة التي تتفانى في عملها مثلما كانت عليه عواطف عبود أو حنان شلبي أو ماهر جرجس أو سلوى توفيق.
أحيانا كنتُ أذهب لبيت من بيوت الثقافة، فلم أجد أحدا من الأدباء، بل لم أجد الموظف المسئول أصلا. وفي بعض المرات تخبرنا موظفة ما أن ابنها ينتظرها بعد درسه الخصوصي لتذهب له ويرجعا إلى البيت، ولا بد أن تنتهي الندوة قبل الساعة كذا، لأنها ستغلق الشقة وتغادر، وغيرها من الأسباب سواء كانت الملفقة أو غير الملفقة.
أما عن خدمات الصيانة ودورات المياه والخدمات العامة، فمعظمها متهالك ويحتاج إلى ترميم وإعادة إصلاح، وعندما كنت أسأل الموظفين عن ضرورة إصلاح مثل هذا التهالك يخبرونني أنهم أبلغوا مالك الشقة أو مالك العمارة ليقوم بالإصلاح، لكنه لم يلتزم.
وبدأت اعتذر عن عدم ذهابي لمثل هذه البيوت التي لا تعمل بكفاءة جيدة، وشعرت أن عوامل الطرد فيها أكثر من عوامل الجذب.
كما أنني رأيت أنها تكرر معظم الأنشطة نفسها التي في قصور الثقافة. وعندما سألت عن المغزى من إقامة بيوت الثقافة في تلك الشقق ضمن العمارات السكنية، عرفتُ أن الغرض أو الهدف هو جذب أبناء المنطقة التي يقع فيها النشاط. لكن حقيقة لم أجد أحدًا من سكان العمارة نفسها أو الشارع نفسه الذي به هذا البيت الثقافي موجودا أو مستفيدًا من هذا النشاط. فالوجوه أعرف معظمها، وهم من الأدباء والكتَّاب الذين التقي بهم في أكثر من مكان.
وأعتقد أنه يجب إعادة النظر في مسألة بيوت الثقافة، خاصة في الإسكندرية التي أعرفها أكثر من غيرها. وفي ظل عدم جاذبية المكان لعدد كبير من الشباب، الذين وجدوا بدائل في أماكن أخرى، وتجمعات خاصة أكثر فاعلية، وأماكن أكثر جمالا وإشعاعا أدبيا وثقافيا.
التعليقات