بينما تتسارع ثورات التكنولوجيا في العالم، يطل مصطلح "الميتافيرس" كواحد من أكثر المفاهيم إثارة للجدل والاهتمام، ليس فقط في مجالات الألعاب والترفيه، بل أيضًا في الإعلام والصحافة. هذا العالم الافتراضي، الذي وُلد في خيال كاتب الخيال العلمي الأميركي نيل ستيفنسون عام 1992 في روايته الشهيرة Snow Crash، أصبح اليوم واقعًا ملموسًا تدفع به كبريات شركات التكنولوجيا نحو آفاق غير مسبوقة.
الميتافيرس ببساطة هو بيئة افتراضية ثلاثية الأبعاد، متصلة بالإنترنت، تسمح للمستخدمين بالتفاعل عبر صور رمزية "أفاتار"، ليعيشوا تجارب أقرب ما تكون إلى الواقع. غير أن ما يثير الاهتمام هو أن هذا التطور لم يعد مقتصرًا على الترفيه، بل أصبح يفرض نفسه على المشهد الإعلامي العالمي، فاتحًا الباب أمام ما يسميه الخبراء "صحافة الجيل السابع".
إعلام بلا حدود مكانية
في السابق، كانت التغطية الإعلامية مرتبطة بمكان الحدث، وبقدرة الصحفي على الحضور الميداني. أما اليوم، فإن تقنيات الواقع الافتراضي تتيح للجمهور أن يعيش الحدث كما لو كان حاضرًا. على سبيل المثال، أطلقت شبكة "سي إن إن" مشروعها (CNNVR) لبث تقارير غامرة من مواقع الأحداث، بينما دشنت وكالة "رويترز" أول غرفة أخبار افتراضية تفاعلية، تسمح للصحفيين والمتابعين بمحاكاة الأحداث والتجول داخلها.
ويقول خبراء الإعلام إن هذه التقنية "ستغير علاقة الجمهور بالأخبار"، فالمشاهد لم يعد متلقيًا سلبيًا، بل أصبح قادرًا على التفاعل، والتجول داخل محتوى القصة الإخبارية، وفهم أبعادها بشكل أكثر عمقًا.
انهيار دور المرسل التقليدي
أحد أبرز التحولات التي يفرضها الميتافيرس هو تفكيك مفهوم "المرسل والمستقبل". في الإعلام التقليدي، كانت القصة تُصاغ من قِبل الصحفي وتُبث للجمهور. لكن في الميتافيرس، تتغير المعادلة؛ إذ يمكن للجمهور المشاركة الفعلية في صناعة المحتوى، سواء عبر اقتراح زوايا للتغطية، أو التفاعل المباشر مع الصحفي خلال بث افتراضي.
ويعتبر باحثون أن هذه النقلة "تضع الصحافة أمام مسؤولية مضاعفة"، إذ سيكون عليها أن توازن بين التفاعلية والموضوعية، وبين الانغماس البصري والحياد المهني.
تحديات الخصوصية والهيمنة
رغم الإمكانات الكبيرة، تبرز مخاطر عدة، من بينها قضية الخصوصية، حيث تجمع شركات التكنولوجيا الكبرى بيانات هائلة عن المستخدمين. كما يخشى مراقبون من أن تتحول هذه المنصات إلى أدوات هيمنة جديدة، بما يزيد من الفجوة الإعلامية بين الدول المتقدمة والنامية.
ويقول تقرير صادر عن "معهد رويترز لدراسات الصحافة" إن "الميتافيرس يحمل فرصًا واسعة لإعادة تشكيل الصحافة، لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات أخلاقية وتنظيمية معقدة، تتعلق بالشفافية والسيطرة والعدالة في الوصول".
مستقبل الإعلام
المؤكد أن الميتافيرس لم يعد مجرد فكرة على الورق. فالتجارب تتسع يومًا بعد يوم، سواء عبر غرف الأخبار الافتراضية، أو عبر دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى. ومن المتوقع أن يشهد العقد المقبل تحولًا جذريًا في مفهوم الصحافة، من مجرد "نقل الحدث" إلى "معايشته".
وهكذا، فإن السؤال المطروح لم يعد "هل سيدخل الإعلام عالم الميتافيرس؟" بل "كيف سيتكيف الإعلام مع هذه الثورة ليبقى مؤثرًا وحاضرًا في وجدان الجمهور؟".
أستاذ مشارك جامعة ليوا
التعليقات