بين الحين والآخر أجد نفسى أسرح فى الماضى وأحاول أن أكتب حكايتى، رغم أن الحكاية لا تستحق، فى نفس اللحظة أستمع إلى صوت داخلى يقول لى: عايشت شخصيات ومواقف يجب توثيقها للزمن، خاصة وأنا أرى عشرات من الحكايات التى تخاصم الحقيقة، إلا أنها أخذت (ختم) الحقيقة. الكتابة اليومية عن قضايا وأفلام وتصريحات تستنفد طاقتى، وكثيرًا ما أسافر لحضور مهرجان أو منتدى ثقافى، وكلما بدأت فى كتابة حكايتى مع الزمن يسرقنى حدث عابر وأتوقف عن الاسترسال.
انتهيت إلى حل وسط، أننى من الممكن أن أسرق من الزمن جزءًا يسيرًا لإنجاز تلك المهمة، وأكتب بين الحين والآخر حكاية، عشتها، سوف أبدأ بواحدة كنت أنا بطلها فى الحياة وأيضًا على المسرح.
أعود معكم إلى المرحلة الابتدائية عام ٦٦، زمن جمال عبدالناصر، حيث الأحلام بالزهو والبطولة تسيطر علينا، وهى فقط ما نشعر به، يفصلنا عام كامل قبل هزيمة ٦٧ التى أحالت الحلم إلى كابوس، كنا وقتها نصدق الأغانى وعبدالحليم يردد: (تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا)، بينما أكبر مكافأة يتلقاها أحدنا فى الفصل أن ينعته أحدهم قائلًا: «إنت فاكر نفسك ابن جمال عبدالناصر»، وفى هذا الزمن كان فى المدرسة فريق تمثيل، وحجرة للموسيقى، وكنت أنا ولا أدرى السبب ولا بأى أمارة بطل الفرقة المسرحية، ولا بأس بين الحين والآخر أن أغنى (بتلومونى ليه) رغم أننى كنت، وأظننى لا أزال خجولًا، والخجل هو العدو الأكبر للمواجهة الذى يعنى الخوف من مواجهة الجمهور، هكذا شاءت الأقدار أن يتم اختيارى بطلًا لفريق التمثيل، وأجرينا بروفات يومية لمسرحية تتناول حفر قناة السويس، لنعرضها بعد ذلك فى مسابقة عامة لمدارس مصر لاختيار الأفضل، المسرحية التى لا أتذكر عنوانها بدقة، تتناول لحظة البداية فى عهد الخديو إسماعيل، أديت أنا دور حسنين الفلاح الذى يذهب إلى القناة ويشارك مجبرًا فى الحفر، كان هذا هو الفصل الأول، أما فى الثانى فإنه يعود إلى بيته فى القرية، والغريب أنه لم يبق فى ذاكرتى من جمل الحوار إلا ما تردده أم حسنين «أمى»، وهى تقول لزوجها أبوحسنين «أبويا»، واسمه عبدالرحمن، تحثه لكى يرحب بابنه وتقول له معاتبة: «جرى إيه يا أبوحسنين، ما تسيبنا نفرح بابننا أومال، مش ده حسنين ابنك اللى رجع لنا من حفر الكنال، حد كان يصدق يا شيخ عبدالرحمن».
كان الشيخ عبدالرحمن رافضًا أن يذهب ابنه للتهلكة والموت، ولهذا كان غاضبًا، ولم يقابل ابنه بعد عودته فى إجازة بالترحيب اللائق، الذى يستحقه بعد طول غياب، أما فى الفصل الثالث فلقد لقيت حتفى أثناء الحفر بسبب حرارة الشمس وبكيت علىَّ أمى «أم حسنين» و«أبويا» الشيخ عبدالرحمن، ولم تعد إلىَّ الروح إلا فى مشهد خيالى يأتى فى نهاية المسرحية فجر ثورة ٢٣ يوليو، ثم قرار عبدالناصر بتأميم القناة، ويعقبه دحر العدوان الثلاثى، الغريب فى الأمر أننى لا أتذكر شيئًا من حوارى فى المسرحية، ولم نحصل بالطبع على مركز متقدم فى المسابقة، ولكن المؤكد أننا عرضناها فى أحد مراكز الشباب، وكانت هناك لجنة تحكيم تابعة من الأساتذة الأفاضل ولايزال فى ذاكرتى من بقايا تلك الليلة دوى تصفيق الجماهير، غالبًا كانوا سعداء بانتهاء العرض.
كل جيلنا كانت أحلامه عندما يكبر أن يصبح ضابطًا أو طبيبًا، بينما اكتشف والدى من واقع الأوراق التى احتفظ بها، عن طريق استمارة كنا نملؤها ونحن فى المرحلة الابتدائية، أننى كتبت فى الرغبات «صحفى»، وكانت لدينا مجلات الحائط، كنت أكتب فيها، والإذاعة المدرسية أيضًا كانت فرصة لتقديم الأخبار يوميًا، وفجأة قررنا من خلال الإذاعة المدرسية إعلان الاحتجاج لأن مدرس اللغة العربية أهان أحد الطلاب، بعد تلك الواقعة تمت تنحيتى تمامًا عن الإذاعة بقرار من الناظر، وكان أول درس عملى فى القمع الذى تمارسه السلطة ضد من يخرج عن الخط، حتى لو كان (ابن جمال عبدالناصر)، انتهت تلك الحكاية، ونلتقى بعد الفاصل فى واحدة أخرى!!.
التعليقات