غريب أن يكون أستاذا متخصصا فى الفلسفة يقول (لا تتفلسفوا)، فالناظر لأول وهلة نظرة عابرة في هذه العبارة، يقول هي دعوة لعدم التفلسف أو هي دعوة لحذف مقررات الفلسفة من الخطط الدراسية سواء فى التعليم الإلزامي أو الجامعي أو ما بعده.
لكن بقليل من الجهد الذهني، وإعمال العقل وتفنيد هذه العبارة، سيدرك العقل أنه ليس المقصود هنا الإطاحة بالتفلسف، لماذا ؟!، لأن التفلسف محبة للحكمة، عشق للتأمل، التأمل في ماذا ؟!، التأمل في كل صغيرة وكبيرة حولنا، التأمل في عالمنا المعيش بكل متناقضاته، بكل قضاياه المستجدة، فلا يمكن بحال من الأحوال أن ينفصل العقل البحاث عن الحقيقة عن قضايا واقعه.
وإلا سيخرج من دائرة الوجود الحقيقي إلى اللاوجود، (الحي المائت) فيصبح هو والعدم سواء، وبما إنه واقع متحيز مفارق للملائكة أي مختلف عنهم، لأن الملائكة عملهم محدد، أما العقل الإنساني فنشاطه غير محدد وفقا للمنهج التأملي، فضرورة ملحة أن يشغل باله وخلده بهذه القضايا ومن ثم لا يمكن له أن يقف متفرجا أو ينتهج منهج (خلينا في حالنا، طالما بعيدة عنا المشاكل لا شأن لنا بها).
لكن نقول لهؤلاء وأمثالهم، دعوكم من هذه السلبية فالمشكلات قد تكون بعيدة عنكم الآن، وأنتم تستمتعون باللذة اللحظوية لذة البعد، لكن ما أدراكم ألا تصيبكم لعنة هذه المشكلات- فتكتون بنار القرب - فتجدون أنفسكم في قلبها لا تستطيعون فكاكا منها وعنها، وقتها ما عساكم فاعلون.
هل ستتبرأون منها ، هل ستديرون وجوهكم عنها ، إذا كانت معضلة تتعلق ببيوتكم وأسركم الصغيرة أو مشكلة تتعلق بوطنكم الذي تحتمون بحماه ، فهل مثلا يليق بالعقل المتفكر أن يشاهد من يطعن في وطنه ويحاول بشتى الطرق الملتوية تفتيته ، ليس هذا وحسب بل والتشكيك في كل منجز تم على أرض واقعه ، مستغلا أحداث وقعت هنا أو هناك ، فيصب جم وقاحاته على الوطن وعلى قادته ، هل أيها المتعقل ستقف لا مبال بمثل هذه الهجمات الشرسة.
هل أيها العقل المستبصر الناقد ، تشاهد من يطعن في معتقدك ودينك أيا كانا مستغلا جهل بعض العوام وعدم المثقفين دينيا ، وأنت تمتلك العقل الديني البصير هل ستقف تتفرج.
ثم أيها الحاذق المتفتح ذهنيا ، هل يليق بك وأنت مواطن فى المدينة العالمية مشاركا للإنسانية في وجودها وتواجدها ألا تهتم بمتابعة الأحداث الجارية على الصعيد الدولي .
ورب واحد يجابهني بسؤال ، وما عسانا فاعلين ، هل سيسمع صوتنا إذا ما حاولنا المشاركة ، أقول يكفيك أن تقول كلمة منصفة عبر السموات المفتوحة ، عبر الشبكة العنكبوتية ، المهم تشارك ولا تصمت فالصمت في مثل هذه الأمور والتخلي خيانة ، خيانة لنفسك أولا ، ثم خيانة لعقلك الفكير ، ثم للإنسانية المتمثلة فيك ، فصوتك قد يسمعه واحد أو عشرة ، والعشرة عبر المنصات الاليكترونية سيصبحون مئات وآلاف.
قس على ذلك محليا لماذا لا نشارك مثلا فى الانتخابات ، سواء البرلمانية أو الرئاسية أو النقابية ، فصوتك قد يرحج كفة مرشح سيصلح ، وقد نجابه بسؤال وما فائدة المشاركة والنتائج معروفة ، أقول بيدك تغيير نتائجها ، فالمنطق يقول لا تمتنع عن المشاركة لأن فى امتناعك ستعطي فرصة للمفسدين للتصويت مثلا بدلا منك.
هذا بالنسبة لبعض قضايانا التي يعج بها وجودنا المادي الذي نحياه ، وإن كنت أرى أن ثمة قضية مهمة ، قضية الحرية والاختيار ، وهل الإنسان مخير أم مسير ، لكنها في حقيقة الأمر قضية وجودية ضرورة ملحة معالجتها على المستويين ، المستوى الواقعي المادي بما أن الإنسان مكون رئيس فيه ، والوجود الميتافيزيقي بما أن الإنسان به النفح الروحاني الرباني - ولنا مع هذه القضية وقفات ووقفات .
لكن الذي يهمني في هذا المقام هو توجيه الانتباه إلى ما يلي: الإنسان بما هو كذلك حر ، وإذا كان ذلك كذلك ، فحريته لابد أن تكون حرية مسؤولة ، حرية الإنسان لابد أن تكون تحت رقابة المعتقد ، الضمير الفردي الذي يشكل الضمير الجمعي ، القيم الخلقية ، ثم المجتمع بعاداته وتقاليده.
ثم يأتي النقاش ، كيف بعد كل ذلك نقول عنها حرية.؟!
أليست هناك مشكلات ميتافيزيقية عويصة ، تتطلب مجهودا ذهنيا خارقا لتدبرها وتأملها والتكفير فيها.
ما بالنا لو سألنا أحد أبنائنا عن الموت ، عن الله ، عن القيامة ، عن الجنة والنار ، عن لماذا خلقنا ، وما مصيرنا ، لم كل هذا الشر في هذا العالم ، لماذا يستقوي القوي على الضعيف ، هل الخير يصدر عنه الشر ، لماذا لا يعم الخير الوجود كله وتمحى منه الشرور ، إلى أين نحن صائرون .
أين الله ، لماذا لا نراه ، وإذا كان هو القوة المتعالية المهيمنة على كل شئ فى الكون ، فلماذا يترك الصهاينة مثلا يمعنون في تجويع أهل غزة ، هل كل هذه المآسي والبلايا خفية عنه.
إذا كانت الكتب المقدسه جميعها تتحدث عن العدالة، وأن الإله عادل ، فلم كل هذا الطغيان والجور الواقع في هذا العالم.؟!
أليست كل هذه أسئلة تدور في خلد الإنسان ، أليس دور العقل الفعال الذي يتفكر أن يحاول أن يجد إجابات على هذه التساؤلات.؟!
ورب واحد يواجهنا بسؤال ، الإجابات واضحة وصريحة الدلالة مثلا فى القرآن الكريم.
لكن هل كل العقول تؤمن بالقرآن، أليست هناك عقول ملحدة، تحتاج إلى المناقشة وإقامة الحجج المنطقية لاقناعها.
وهنا يأتي دور التفلسف، دور الحكيم المتفكر محب الحكمة، الذي دأبه وديدنه وشغفه البحث عن الحقيقة التي تقوده إلى اليقين المعرفي.
وأخيرا هل نتفلسف أم لا نتفلسف ؟!،كل يفتش داخله، وسيصل إلى حقيقة لا مراء فيها، ألا وهي كل إنسان بداخله ذات مفكرة متفلسفة.
أستاذ الفلسفة بآداب حلوان
التعليقات