
الشاعر والإعلامي عادل خزام، د. هيام عبد الحميد، أشرف أبو اليزيد، د. عائشة الدرمكي، د. حسن مدن وسلمى النور ونيا أميرة (الصورة من اليمين لليسار)
في المؤتمر العالمي الثاني للكتّاب، ترأستُ جلسة المائدة المستديرة الثالثة التي انعقدت في موسكو ونظمتها منظمة كُتّاب العالم (WOW) تحت العنوان اللافت: «لإعلام والمجلات الأدبية: من محاكاة المعلومات إلى برهان دلالي. وشهدت الجلسة حضور نخبة من الأصوات العالمية: مارسيل سليموف (روسيا)، عادل خزام (الإمارات)، شيراني راجاباكسي (سريلانكا)، البروفيسور العيد زغلامي (الجزائر)، ود. عائشة حمد سعيد الدرمكي (سلطنة عُمان)، بمشاركة الدكتورة هيام عبد الحميد (الإمارات) ود. حسن مدن (البحرين) الكاتب العربي المعروف، حيث قدّما تعليقات تحليلية متخصصة. تناول المتحدثون الدور المتطور للإعلام والمجلات الأدبية في تشكيل الخطاب العام، مندمجين بين الابتكار التكنولوجي والصرامة الثقافية والفكرية، مع إعادة تعريف التداخل بين المعلومة والإبداع والقيم المجتمعية. جاءت المناقشة كتأمل في كيفية تجاوز هذه المنصات لمجرد نقل الأخبار، لتصبح أدوات للمعنى، تُمكّن القارئ من استيعاب تعقيدات المشهد الثقافي والاجتماعي. ودعت مارجريتا آل، رئيسة منظمة كُتّاب العالم (WOW) التي وضعت موضوعات الجلسات الثماني، مدراء النقاشات إلى عرض ما دار في ختام الجلسات.

مارجريتا آل بين أشرف أبو اليزيد (مصر) وشيراني راجاباكسي (سريلانكا)
شبكة الأخبار… طريق الحرير الإعلامي الجديد
قبل نحو أربعة عقود بدأت رحلتي مع الصحافة. كانت البداية في صحيفة محلية، ثم التحقت بحركة مجلات “الماستر” في الثمانينيات، وهي حركة صحافة بديلة طُبعت بتقنية الأوفست، ومثّلت التيار غير الرسمي للإعلام في ذلك الزمن.
وفي عام 1995، تشكّلت مسيرتي المهنية في الصحافة الثقافية بصورة رسمية، سواء عبر مجلات فصلية (نزوى – سلطنة عُمان)، أو مطبوعات شهرية (العربي في الكويت، “أدب ونقد” في مصر، مجلة “مؤتمر الصحفيين الأفارقة” في نيجيريا، ومجلة N في كوريا ، أو وكالات أنباء دولية (رويترز – القاهرة)، أو المنصات الرقمية ، The AsiaN في كوريا، وأخيرًا (طرق الحرير اليوم) في مصر. ومن خلال هذه الرحلة الطويلة، اتضح لي أننا بحاجة فعلية إلى “طريق حرير إعلامي“، حيث تتشابك المسارات بين المؤسسات الإعلامية عبر القارات، لتُنشئ شبكات داعمة للتبادل الثقافي والحوار بين الشعوب.
وفي هذا الإطار، شاركتُ في بروتوكول الإعلام الدولي، وأدعو اليوم جميع المعنيين للانضمام إلى هذه المبادرة. يجمع البروتوكول حاليا منصات إعلامية من مصر، الإمارات، نيجيريا، صربيا، اليمن، باكستان، الهند، بنجلاديش وغيرها، ويعمل بعدة لغات. وأؤمن أن نشر الأدب عبر هذه المنصات الدولية يشكّل فرصة مهمة أمام منظمة كُتّاب العالم (WOW) لإبراز أصواتها الأدبية المتفرّدة. هذه الرؤية تتناغم مع سلسلة “إبداعات طريق الحرير” التي نشرت بالفعل أعمال كتّاب من أربع قارات مختلفة.
تحدّي هيمنة الإعلام الغربي
تجلّى الحوار من خلال دراسات حالة ورؤى نقدية ثرية. فقد طرح البروفيسور العيد زغلامي، الجزائر،سؤالًا جوهريًا: متى تتحدّى المراكز الإعلامية الإفريقية هيمنة الإعلام الغربي؟، محللًا كيف تهيمن التكتلات الغربية على الأخبار العالمية بينما تهمّش غالبًا المنظورات الإفريقية. وأشار إلى صعود مراكز إعلامية في نيجيريا وكينيا وجنوب إفريقيا، تنتج بالإنجليزية محتوى عالي الجودة وتوسّع فضاءات لجماهيرها المحلية، قال:
“في مداخلتي القصيرة، سأركز على إفريقيا كدراسة حالة، تلك القارة التي توصف ظلمًا بأنها ميؤوس منها وكئيبة. إفريقيا، غير المحبوبة إعلاميًا، ما تزال في صميم التحليلات السياسية في الإعلام الغربي، رغم انتهاء صراع الشرق والغرب. الكثيرون في العالم الغربي يفتقرون إلى معرفة حقيقية عن إفريقيا. وهناك دلائل على الأسلوب الذي تعتمده وسائل الإعلام الغربية في نشر معلومات سلبية بشكل متعمّد عند التغطية أو البث حول إفريقيا. ومع ذلك، ما يلفت الانتباه هو بروز مراكز إعلامية في بعض الدول الإفريقية مثل نيجيريا وكينيا وجنوب إفريقيا، حيث تؤدي وسائل الإعلام هناك دورًا فعّالًا، وتتفوق في إنتاج محتوى نوعي، وتوفّر بدائل وتقنيات تتيح مساحة أوسع لجماهيرها“.

مارسيل سليمُوف مع مجلة “خانك” الساخرة الباشكيرية
في غضون ذلك، استعاد مارسيل سليمُوف التاريخ العريق لمجلة “خانك“ الساخرة الباشكيرية (باشكورتوستان إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية)، التي تولّى رئاسة تحريرها على مدى ثلاثين عامًا. وبمناسبة احتفالها بمئويتها، تمثّل “خانك” مثالًا على الثقة بالصحافة والمرونة الثقافية، إذ كرّمها المجلس الأعلى في باشكورتوستان مرتين، وأُدرجت ضمن الصندوق الذهبي للصحافة الروسية. وقد أبرزت هذه المداخلات، إلى جانب رؤى المتحدثين الآخرين، الدور الحيوي للمجلات الأدبية والإعلام كمنارات ثقافية تقود الحوار، وتحفظ التراث، وتغذّي الفهم المشترك والمعنى في عالم يزداد عولمة.
مارسيل سليمُوف هو كاتب الشعب في باشكورتوستان، وعامل ثقافي مكرّم في الاتحاد الروسي وجمهورية باشكير السوفيتية، وصفه كلاسيكي الأدب الباشكيري موستاي كريم بأنه “ساخر معاصر بارز”. منذ عام 1973، وبعد تخرجه من الجامعة وأداء خدمته العسكرية، عمل في هيئة تحرير مجلة “خانك” (“المذراة”) حتى تقاعده: بدايةً كعضو في الهيئة الأدبية، ثم محررًا للقسم، ولمدة ثلاثين عامًا رئيسًا للتحرير 1980 –2010.
أما عادل خزام، الشاعر والكاتب والإعلامي في تلفزيون دبي، الإمارات العربية المتحدة، فقد شدّد على المسؤولية الأخلاقية للكتّاب والشعراء، واصفًا الأدب بأنه قوة تواجه الظلم، وتحرّر العقول من الجهل، وتفتح نوافذ الأمل حين ينغلق العالم. وأكّد أن في مشهد عالمي مثقل بالحروب والأزمات المناخية والأوبئة وعدم المساواة الاقتصادية، تقع على عاتق الكتّاب مهمة إعادة التوازن الأخلاقي ورعاية الضمير الإنساني. كما أبرز قوة الأدب في تجاوز الحدود السياسية، وتوحيد الثقافات المختلفة، وخلق فهم إنساني مشترك. وأشار إلى أهمية المبادرات التعاونية—من ترجمة الشعر، ودعم الكتّاب الشباب، وتعزيز الإبداع—كأدوات أساسية للحفاظ على المجتمع الأدبي العالمي.
ومن جانبها، قدّمت شيراني راجاباكسي، الشاعرة والمحرّرة من سريلانكا، دراسةً عن دور المجلات الأدبية الإلكترونية والمدوّنات في إعادة تشكيل الخطاب الأدبي. وشرحت كيف أن الرقمنة وسّعت الوصول إلى الأدب، وطمست الحدود بين الإعلام التقليدي والرقمي، وقلّصت من سلطة “حراس البوابة”. ورأت أن المنصات الإلكترونية أسهمت في ديمقراطية تدفق المعلومات، مقدّمةً وجهات نظر متعدّدة حول الثقافة والسياسة والقضايا الاجتماعية التي غالبًا ما يغفلها الإعلام التقليدي. واستشهدت بأمثلة مثل الحرب في أوكرانيا والوضع في فلسطين لتبيّن كيف تتيح وسائل الإعلام الرقمية والأنطولوجيات الأدبية سرديات متعددة تعزز الفهم الأوسع للأحداث العالمية. كما أشارت إلى القيود التاريخية للمجلات الأدبية المملوكة للغرب، التي كثيرًا ما استبعدت الأصوات المهمّشة، ووصفت كيف تطوّرت المنصات الإلكترونية إلى أنظمة دلالية تمكّن الكتّاب في أنحاء العالم من الوصول إلى القرّاء، وبناء المجتمعات، وإعادة تعريف المعايير الأدبية.

المشاركون في الموائد المستديرة
المجلات الثقافية والتقنيات الحديثة
الدكتورة عائشة الدرماكي، الأستاذة المساعدة في الجامعة العربية المفتوحة بمسقط ورئيسة تحرير مجلة نزوى الثقافية، قالت إن مفهوم الثقافة يعتمد في بقائه واستمراره على حيوية الهوية الثقافية للشعوب. فالثقافة فردية وجماعية في آنٍ معًا، ذات أبعاد ومتغيرات متعددة تشمل جميع جوانب الحياة فضلًا عن تطلعات الأمم. وفي كتابه “ملاحظات نحو تعريف الثقافة”، يطرح ت. س. إليوت سؤالًا جوهريًا: من المسؤول عن تأسيس الثقافة؟ ومن هم المثقفون؟ هل هم مجرد “أقلية صغيرة، وبالتالي لا مكان لهم في مجتمع المستقبل؟”—في إشارة إلى النخبة. وهذا السؤال يفتح باب النقاش حول ما إذا كانت الثقافة نخبوية أم شعبية:
“هذا يضعنا مباشرة أمام تحدّيين مزدوجين: الهوية من جهة والعولمة من جهة أخرى. فالهوية تعني ترسيخ ملامح وأُسس وأطر ثقافة المجتمع، بينما تركّز العولمة على انفتاح المجتمعات على العوالم الأخرى واندماجها فيها. ولعل هذا ما جعل تشارلز تايلور يقدّم مفهوم الهوية الحديثة في كتابه “منابع الذات: تكوين الهوية الحديثة”. إذ يرى أن التغيّرات الثقافية مدفوعة بممارسات متحوّلة متنوّعة—دينية، سياسية، اقتصادية، أسرية، فكرية وفنية—تتضافر وتدعم بعضها البعض. وهذه التحولات تؤثر على الفهم الثقافي للذات، مُشكّلةً الهوية الفردية والجماعية على حد سواء. ويؤكد تايلور أن الهوية الحديثة ذات أبعاد معرفية لها انعكاسات مباشرة على الرأسمالية، تؤثر في الممارسات الاقتصادية، وقدرة المجتمعات على موازنة القوى الفكرية مع الحقائق الاقتصادية، وكذلك في التفاعل بين الحياة الدينية والأخلاق والتقدم الصناعي.”
وقالت الدرمكي إنه في سياق العولمة وهذا الانفتاح المعرفي الواسع، يغدو مفهوم المشروع الثقافي محوريًا. فعندما نناقش اليوم المجلات الثقافية في ضوء هذه التحولات المعرفية، علينا أن نسأل: هل المجلات الثقافية مجرد مطبوعات ورقية، أم أنها مشاريع ثقافية متكاملة؟ ويزداد هذا السؤال إلحاحًا مع الثورة التكنولوجية التي أفرزت ثقافة جماهيرية تنافس الثقافة النخبوية، وأوجدت علاقات جديدة بين الفرص اللامحدودة للعولمة—بما تحمله من تحولات سريعة وانفتاح تواصلي—وبين قدرة المجتمعات على دمجها في الحياة اليومية. وتواجه المجلات الثقافية تحديات جسيمة—فكرية واقتصادية واجتماعية وسياسية. فبينما تعبّر الثقافة المجتمعية عن فرادة الجماعات التي تنتجها، تمثل العولمة أوسع تجلٍ لتنوع الثقافات:
“على المؤسسات الداعمة للمجلات الثقافية اليوم أن تجيب عن أسئلة مصيرية، منها: كيف يمكن استثمار التقنيات المتسارعة لابتكار نموذج ثقافي جديد في المحتوى وآليات النشر؟ كيف يمكن التوفيق بين النشر الورقي والرقمي باعتبارهما وسيطين متكاملين؟ كيف يمكن الموازنة بين الكتابة الثقافية الرصينة والتحولات التكنولوجية والسياسية التي تؤثر في القرّاء الجماهيريين؟”
هذه التحديات تقود إلى محورين أساسيين:
١. الصناعة الثقافية: وهي ظاهرة أوجدتها التكنولوجيا في تفاعلها مع الممارسات الاجتماعية والثقافية. فوسائل التواصل الاجتماعي اليوم تنتج أشكالًا ثقافية لم تكن معروفة من قبل، وتؤسس أنماطًا تواصلية قائمة على الانفتاح العالمي، سواء في إنتاج المعرفة أو في أنماط الخطاب الثقافي.
٢. السياسات المالية: إذ تواجه المؤسسات الثقافية غالبًا قيودًا في الميزانيات تدفعها إلى نشر غير منتظم أو عشوائي، ما يُنتقد أحيانًا باعتباره انحدارًا بالذائقة العامة. ومع ذلك، تتصدى مجلات عديدة لهذه المعضلة عبر نشر أعمال الكتّاب الشباب، ما يوسّع قاعدة القرّاء ويحفّز التطور الأدبي والإبداعي، مع تحقيق توازن بين الورقي والرقمي عبر المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصات أخرى.
هذه الديناميات تترك آثارًا مباشرة: فبعض المجلات يواصل البقاء، بينما تغلق أخرى تحت وطأة الضغوط التكنولوجية والمالية. أما تلك التي تصمد فترجع مرونتها إلى التزام مؤسسيها وقدرتها على التكيّف، عبر استثمار الابتكارات الرقمية—من مواقع إلكترونية ووسائل تواصل اجتماعي وبودكاست ومساحات الكتابة الإبداعية الإلكترونية. بل إن بعض المجلات تحوّلت بالكامل من الورق إلى الفضاء الرقمي.
وهكذا، فإن العلاقة بين الثقافة والتكنولوجيا تقوم على أطر أيديولوجية محددة وأهداف واضحة. ويجب على المجلات الثقافية أن توائم مشاريعها مع الواقع المعاصر دون أن تتنازل عن الأسس التي تعرّف هويتها وتعزز قيم المجتمع. فإذا تحقق هذا التوازن، فإن بوسعها أن تستثمر التكنولوجيا والإعلام الرقمي لإثراء الثقافة المجتمعية والارتقاء بها، وإطلاق نهضة ثقافية تقاوم المنتجات الثقافية “الجاهزة” المتسَلِّعة، وتدعم الكتّاب الملتزمين بنشر المعرفة وتعزيز التطور الثقافي.

سجلت الإمارات حضورا متميزا في هذه القمة من خلال مشاركات عدة من بينها كلمة ألقاها الشاعر عادل خزام في جلسات حوار منظمة كتاب العالم شدد فيها على أهمية الأدب في صياغة رؤى السلام العالمي، ومنوهاً بدور الأدباء في اعادة التوازن لقيمنا الإنسانية الأصيلة قبل أن تجرفنا شعارات السوق الاستهلاكية، وشاركت الدكتورة هيام عبدالحميد رئيسة تحرير صحيفة اميرتس توداي سابقا في نقاشات المائدة المستديرة حول أخلاقيات الإعلام ودوره في صياغة عالم خال من التحيزات
كما شاركت الدكتورة هيام عبد الحميد، رئيسة تحرير صحيفة الإمارات اليوم سابقًا، في مناقشات المائدة المستديرة حول أخلاقيات الإعلام ودوره في بناء عالم خالٍ من التحيز.
وكانت فرصة أيضًا للاستماع إلى نصائح الكاتب الصحفي البحريني الدكتور حسن مدن حول الكتابة اليومية بتنوع موضوعاتها لجذب شرائح واسعة من القرّاء.
إنتاج المعنى والحوار والفهم المشترك
لقد أبرزت مناقشات المائدة المستديرة في المؤتمر العالمي الثاني للكتّاب الإمكانات التحويلية للإعلام والمجلات الأدبية كأدوات للتوجيه الثقافي والانخراط الفكري. وأكد المتحدثون ضرورة تجاوز مجرد نقل المعلومات نحو إنتاج المعنى والحوار والفهم المشترك. واستعرضت دراسات حالة من أفريقيا وبشكورتوستان والجزائر والإمارات وسلطنة عمان والبحرين وسريلانكا كيف تعيد وسائل الإعلام المحلية والمجلات الأدبية والمنصات الرقمية تشكيل السرديات، وتض放 صوت المهمشين، وتُسهم في ديمقراطية الوصول إلى المعرفة.
وخلصت الجلسة إلى أن الحفاظ على الثقافة الأدبية في عالم معولم تقوده التكنولوجيا يتطلب التعاون والابتكار والمسؤولية الأخلاقية. فمن خلال دمج التقاليد بالأدوات الرقمية، تستطيع المجلات ووسائل الإعلام أن تحافظ على الهوية الثقافية، وتدعم الكتّاب الناشئين، وتبني جمهورًا مثقفًا وناقدًا. وأعادت المائدة المستديرة التأكيد على الدور الجوهري للأدب والإعلام كجسور بين المجتمعات، ومحفّزات للحوار، وحماة لضمير الإنسانية.
التعليقات