ليس من عادتي أن أكتب عن نفسي. فالحياة في غرفة العمليات لا تمنحك رفاهية التأمل في ذاتك، بل تدفعك دومًا للانشغال بإنقاذ حياة الآخرين.
لكن في يوم كهذا… يوم مولدي، وجدت نفسي أسترجع كل لحظة لمست فيها قلب طفل، وكل نظرة شكر في عين أم، وكل دعاء سمعته بصمتٍ بعد نجاح عملية جراحية.
في هذا اليوم الذي يوافق ميلادي، لا أحتفل بالسنوات التي مضت، بل بالأرواح التي أُتيحت لي فرصة أن أكون سببًا في بقائها.
لا أقف أمام مرآة العمر لعدّ السنين، بل أنظر في عيون مرضاي… أبحث عن أثر. عن لحظة حياة امتدت، أو ابتسامة وُلدت بعد يأس.
الطب ليس مهنة… بل رسالة
اخترتُ الطب يومًا، لا لأنني أردت وظيفة، بل لأنني أردت طريقًا… طريقًا أكون فيه سببًا في النجاة.
سافرت من بلدٍ إلى بلد، وطرقت أبواب المستشفيات المزدحمة والقرى المنسية، لأنني أؤمن أن من يمتلك العلم، لا يملك أن يحتفظ به لنفسه فقط.
أجريت عمليات، نعم… لكنني عشت مع كل مريض تفاصيل الرحلة كأنها أول مرة. لأن كل حالة هي قصة حياة لا تتكرّر.
الرحلة التي جعلتني إنسانًا قبل أن أكون طبيبًا..
مررت بمحطات كثيرة، وتلقيت تكريمات متعددة، وكان لكل محطة طعم خاص.
لكن أجمل ما في الرحلة لم يكن التصفيق ولا المنصات… بل لحظات الصمت التي تسبق عودة نبض القلب في غرفة العمليات، أو دعاء أم خافت لا يسمعه سواها.
لقد تعلّمت من كل مكان زرته درسًا…
في أوروبا، عرفت دقة المعرفة.
في إفريقيا، لمست نبض الحاجة.
وفي الإمارات، عرفت كيف يكون الطب إنسانيًا.
الإمارات… الوطن الذي يحتضن الرسالة
هنا في الإمارات، وُجدت بيئة تجعل من الطبيب رسولًا للخير.
قيادة تُكرّس الإنسانية نهجًا، وتمنح كل من يعمل في ميدان العطاء مساحةً ليصنع فرقًا حقيقيًا.
من دبي إلى أبوظبي، ومن العيادات إلى المبادرات العالمية، كنتُ دومًا محاطًا بثقة، تضعني أمام مسؤولية لا تقل عن قداسة القسم الطبي.
كل عام… أبدأ من جديد
عيد ميلادي ليس خاتمة فصل… بل بداية جديدة.
أجدد فيها العهد لنفسي ولمن حولي أن أواصل. أن أُعالج لا الأجساد فقط، بل القلوب أيضًا.
أن أبقى وفيًا لكل طفل ينتظر، ولكل مريض يحتاج، ولكل رسالة حملتها يوم لبست الرداء الأبيض أول مرة.
لأن الحياة ليست عدد الأنفاس… بل ما نصنعه في أنفاسنا
علمتني الرحلة أن أجمل ما في الحياة ليس أن تطول، بل أن يكون لها معنى.
أن نعيش أعمارنا لا كعددٍ من السنوات، بل كقيمة نُضيفها لغيرنا.
فالنجاح الحقيقي لا يُقاس بعدد الجوائز، بل بعدد المرات التي كنت فيها سببًا في عودة نبض، أو دمعة فرح، أو ابتسامة شفاء.
كل تجربة مررت بها، وكل مريضٍ التقيته، وكل تحدٍ واجهته، شكّلني.
وأدركت أن الرسالة التي نحملها كأطباء لا تنتهي بانتهاء العملية أو غلق الملف… بل تمتد حين نُبقي في قلوب الناس أثرًا، لا يُنسى.
في هذا اليوم، لا أطلب تهنئة، بل دعوة: أن يُبارك الله كل يدٍ تُخفف، وكل قلبٍ يُنقذ، وكل إنسان اختار أن يكون نورًا في حياة غيره.
التعليقات