رؤية نقدية لرواية "كآبة المقاومة" لـ لاسلو كراسنا هوركاي.
رواية "كآبة المقاومة" للكاتب المجري لاسلو كراسنا هوركاي، التي صدرت بالمجرية عام 1989 وتُرجمت إلى العربية بواسطة الحارث النبهان عام 2020، تمثل عملاً أدبياً سوريالياً يجسد سلسلة أحداث غامضة في مدينة هنجارية صغيرة خلال شتاء قارس. ففي عصرنا المتسارع، تقدم الرواية أدباً بطيئاً يدعو للتأمل، مؤكدة مكانة كراسناهوركاي ككاتب يرى، في تعجل، نهاية العالم.
يُعتبر كراسناهوركاي، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2025، كاتباً يتميز بأسلوبه الفلسفي العميق والسوداوي، حيث يستكشف في أعماله قضايا الانهيار الاجتماعي والروحي. وروايته، التي تُترجم حرفياً إلى "كآبة المقاومة"، تُعد تحفة أدبية تجمع بين الرعب والجمال، مستوحاة من تاريخ أوروبا الشرقية في عصر الشيوعية.
تدور الأحداث في بلدة مجرية مهملة، تغرق في الفوضى والتدهور، حيث يصل سيرك غريب يعرض جثة حوت عملاق محنط، مما يثير شائعات عن غرض سري خبيث. يؤدي ذلك إلى حالة من الذعر الجماعي، تبدأ الرواية برحلة السيدة بلوف إلى منزلها، مروراً بأحداث تكشف عن تفكك المجتمع. الابن فالوسكا، وهو شخصية رئيسية بريئة، يتجول في البلدة مفتوناً بالسماء، بينما صديقه إيستر، وهو موسيقي معتزل، يتأمل في عدمية العالم. زوجة إيستر، السيدة إيستر، تُدبر مؤامرة للسيطرة على البلدة مستغلة الفوضى الناتجة عن وصول السيرك. تنتهي الرواية بانفجار عنيف، حيث يصبح فالوسكا كبش فداء للكارثة.

الشخصيات في الرواية مرسومة بدقة نفسية عميقة، تعكس صراعات بشرية أوسع. فنقرأ في بداية الرواية البطلة بلوف وهي عائدة إلى منزلها عبر رحلة القطار الذي يضم كل الأطياف، فتشعر برعب شديد إذ لا يوجد أي نوع من الأمان بين الجماهير أيًا كانت فئاتهم ويتم مطارتها من متحرش بالرغم من هذا الزحام، يتابع كل تحركاتها، يتأمل ظلها المنعكس في الزجاج ولاسيما صدرها التي يهتز مع اهتزازات القطار، فتهرب مسرعة إلى الحمام لتعدل من وضع ملابسها فإذا بالمتحرش يتبعها ويدق الباب معتبرًا حركتها دعوة له لتتبُعها...!! ويُظهر لنا الكاتب عبر بطلته بلوف دهشته الرهيبة عن هذه الطريقة في التفكير، وعن كيف تسير سيدة في مثل هذه السن الكبيرة بينما لا تشعر بالأمان.
فالوسكا، البطل ذو الحظ العاثر، يمثل البراءة والروح النبيلة؛ رأسه "يسبح بين الغيوم"، مفتوناً بالكون، لكنه يصبح ضحية للفوضى الأرضية. يُقابل السيدة إيستر، الشريرة الطموحة التي تسعى للسيطرة على البلدة، تجسيد للطغيان والفاشية. زوجها الضعيف، السيد إيستر، فيلسوف متشائم يتخلى عن العالم، يعبر عن الكآبة الوجودية. هذه الشخصيات غير النمطية تجعل الرواية صعبة النسيان، حيث يبرز كراسناهوركاي تناقضات الإنسان بين الجمال والقبح، فعلى سبيل المثال، ينظم رقصة تمثل الأجرام السماوية في حانة، لكنها تتحول إلى رمز للانهيار.
تتناول الرواية مواضيع فلسفية عميقة مثل الكآبة، المقاومة، والانهيار. يُرمز الحوت المحنط إلى التدهور: جثة عفنة تمثل انحلال المجتمع، لكنها تحمل أيضاً سراً أثيرياً. يستكشف الكاتب التوتر بين العجب والتشاؤم، مستلهماً من الفكر الأوروبي (من أوغسطينوس ودانتي) الإيمان بالنعمة، (ومن هوبز وداروين) التشاؤم الوجودي.
الفوضى هي الحالة الطبيعية للعالم، كما يقول كراسناهوركاي، حيث يتفكك كل شيء: النفسي، الاجتماعي، الطبيعي، والكوني. فالرواية تُعد استعارة لعصر الشيوعية في هنجاريا، مع نقد للعجز الجماعي والخضوع للقوى المظلمة. كما تبرز مقاومة الفرد للانهيار، لكنها مقاومة كئيبة تنتهي بالفشل.

وصف البعض أسلوب كراسناهوركاي بأنه عبارة عن جمل طويلة تصل إلى صفحات كاملة، بدون فواصل تقليدية، تخلق تدفقاً يشبه نهراً أسود جبارا، هذا الأسلوب يعكس الفوضى الداخلية، مما يجعل القراءة تحدياً مكثفاً يرفع القارئ في قفزات متتالية.
الترجمة العربية تحافظ على هذا الإيقاع، مما يجعل الرواية عملاً فلسفياً يجمع بين الرعب والفكاهة السوداء.
"كآبة المقاومة" رواية فلسفية عميقة تكشف عن هشاشة الإنسان أمام الفوضى، معتمدة على أسلوب فريد يجعلها تحفة أدبية. تأثيرها يكمن في قدرتها على استثارة المخاوف البشرية الكامنة من أي هجوم حتى ولو مجرد نظرة عابرة.
تحليل أعمق لرمزية الحوت في رواية "كآبة المقاومة" للاسلو كراسناهوركاي، حيث يشكل الحوت المحنط العملاق عنصراً مركزياً يحمل طبقات متعددة من الرمزية، تجمع بين الدلالات الكونية، السياسية، والوجودية. يصل الحوت للعرض في سيرك غامض إلى مدينة هنغارية صغيرة، محفزاً سلسلة من الأحداث الغامضة والعنيفة التي تكشف عن هشاشة المجتمع. هذا الحوت ليس مجرد عنصر درامي، بل هو استعارة غنية تتجاوز الظاهر لتعكس أزمات الإنسان المعاصر، مُستلهَمة من تراث أدبي وديني غني.
يُصور الحوت في الرواية كحامل للكون، رمزاً للاتحاد بين السماء والأرض، وكأنه ملاك، أو ثور، وحركاته تسبب الزلازل. هذا الرمز يعكس شكل البيضة للحوت، الذي يرمز إلى اتحاد العوالم العلوية والسفلية، مما يجعله جسراً بين الوجود المادي والروحي. في الرواية، يرتبط هذا بالشخصية فالوسكا، الذي يرى في الحوت جزءاً من كونه السماوي، لكنه يدعو الناس إلى نسيانه والنظر إلى السماء، مما يبرز التوتر بين الجسدي والميتافيزيقي. كما يرتبط الحوت بالوحش البدائي الأسطوري الذي يمثل الفوضى الأولى والقوى المعادية. في الكتاب المقدس (مثل سفر أيوب والرؤيا)، يثير تحريكه نهاية العالمي، مما يتوافق مع جو الرواية الذي ينذر بالكارثة، أو إلى عودة الفوضى البدائية التي تهدد النظام. هذا الرمز يعزز الثيمة الرئيسية للانهيار، حيث يحفز وصول الحوت على جذب حشود وإثارة عنف عشوائي، كأنه يحمل "بذور الدمار" داخل جسده الفارغ.
يُفسر الحوت أيضاً كتذكير بالموت، جثة عفنة عملاقة تمثل اللامعنى واللامبالاة المادية للعالم. في قصة سيدنا يونس، يمثل الحوت رحماً أو تابوتاً يرمز إلى الموت أثناء الابتداء الروحي، ثم الإعادة الميلاد، مما يعكس دورات الخلق والتدمير في الرواية. وبنظرة تشاؤمية يقدم الكاتب من خلال "الموت والإعادة الميلاد" في المدينة، أن الانهيار يؤدي إلى تجديد خلوي في النهاية، لكن بكآبة وجودية. لكن فالوسكا، يدمج الحوت في رؤيته الكونية، لكنه يكشف هشاشة الأوهام أمام العنف، مما يؤدي إلى انهياره الشخصي.
كاستعارة سياسية، يرمز الحوت إلى السلطة الفارغة أو الدولة المحنطة في عصر ما بعد الشيوعية في هنجاريا. يُقارن بـ"حصان طروادة" يجلب الدمار، محفزاً شغباً يستغله شخصيات مثل السيدة إيستر لفرض نظام فاشي تحت شعار "تنظيف المدينة.
في سياق الثمانينيات المجرية، يعكس الحوت الانهيار الاجتماعي والأخلاقي، حيث يجذب الجماهير إلى مشهد سطحي يخفي الغضب الجماعي والعدمية، يُرى أيضاً كرمز للأمل المحنط، حيث يُعامل كعلامة للرومانسية الميتة، مقابل الغضب الأعمى للجماهير التي "لا شيء تخسره" لكن بدون رؤية سياسية.
رغم جو الشر، يحمل الحوت لمسة فكاهية سوداء، كما في وصف كراسناهوركاي الطويل المتعرج الذي يجعل الرواية "كوميدية بشكل مكثف يُقارن بالعالم الكافكاوي، حيث يمثل اللامعقول الذي يهدد الوجود، لكنه يثير الضحك من خلال التناقض بين عظمته وفارغيته هذا يعزز ثيمة عدم التقدم البشري، حيث الحياة "متحف جليدي لوجود عديم الجدوى.
رمزية الحوت في "كآبة المقاومة" متعددة الأبعاد، تجمع بين الكوني (حامل الخلق)، الوجودي (تذكير بالموت)، والسياسي (محفز للانهيار). كاستعارة مفتوحة، يدعو القارئ إلى تفسيرها، مشدداً على مقاومة الفوضى الكئيبة التي تهدد الإنسانية. في عصرنا، يذكرنا الحوت بأن الغريب قد يكون ابن الحياة نفسها، محذراً من الانهيار الذي ينتظر.
التعليقات