بفقدان الدكتور فوزي خضر، الشاعر والأديب والباحث، لم يفقد الوسط الثقافي المصري والعربي مجرد قامة، بل فقد أحد مهندسي الوعي الذين ربطوا بين عظمة التراث العربي وضرورة التشويق المعاصر. ولئن كانت وفاته صدمة كبيرة جاءت بعد أيام قليلة من تكريمه المستحق، الذي رافق تكريمي بجائزة باشراحيل الثقافية في يوليو 2025 التي نظمتها دار منازل للنشر والتوزيع بالمجلس الأعلى للثقافة، فإن إرثه يظل حيًا، خاصة في الأجيال التي التقت به شخصياً ومهنيًا.
بدأت معرفتي بالدكتور فوزي خضر مبكرًا، حين كنت في المرحلة الإعدادية، حيث كان اسمه يتردد في أروقة الإذاعة المصرية كصاحب مشروع ثقافي فريد. لكن القدر شاء أن يجمعنا العمل فيما بعد داخل ماسبيرو من خلال البرنامج الإذاعي الأضخم: "كتاب عربي علّم العالم".
لقد أتيح لي شرف المشاركة ضمن فريق عمل هذا المشروع التاريخي، حيث ساهمت في تنفيذ عدد من أجزائه الأخيرة تحت إشراف المخرجين الكبيرين: المخرج مدحت زكي (الإخراج) والمخرج مجدي سليمان (التنفيذ).
يمثل البرنامج الإذاعي "كتاب عربي علم العالم" ثورة في تقديم التراث؛ فقد نجح في تحويل أهم الكتب العربية القديمة التي ساهمت في تطور العلوم الحديثة (كـ الفيزياء والكيمياء والأحياء) إلى مادة درامية مشوّقة، جعلت المعرفة سهلة المنال للمستمعين. وقد أكمل الدكتور فوزي خضر هذا العطاء بتحويل هذه الأعمال الإذاعية إلى سلسلة كتب نُشرت بالتعاون مع الهيئة العامة للكتاب، لتصبح مرجعاً ثقافياً مطبوعاً وهاماً.
إن الحديث عن الدكتور فوزي خضر هو حديث عن هذا الصرح الإذاعي الذي يمتد تاريخه لأكثر من ستين جزءًا من العطاء الثقافي. بدأت السلسلة بتسجيل الجزء الأول في ديسمبر 1988 وإذاعته في يناير 1989، متضمناً ثلاثين حلقة مدة الواحدة 15 دقيقة. وتناول كتب مثل ابن الطفيل، والفلسفة الأولى للكندي، والبيروني. وتألق في بطولته كوكبة من النجوم على رأسهم محمود مرسي ومحسنة توفيق ومدحت مرسي. واستمرت الأجزاء التالية (1989 - 2011) في تقديم روائع التراث، وشملت أعمالاً عن: نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري، وعلماء مثل البتاني (علم الفلك)، ونصير الدين الطوسي (حساب المثلثات)، وأبو الفتح الخازني، وابن زهر الأندلسي، إلى جانب كتاب الحيوان للجاحظ. وقد شارك في البطولة نخبة من ألمع فناني مصر، منهم: ليلى طاهر، صلاح قابيل، سميرة عبد العزيز، محمد وفيق، عمر الحريري، أشرف عبد الغفور، جلال الشرقاوي، نادية رشاد، وأحمد عبد العزيز. وكان آخر الأجزاء في عام 2011 عن كتاب المختار في كشف الأسماء لزين الدين الدمشقي (في الاقتصاد والتعاملات التجارية).
لم تقتصر علاقتي بالراحل د. فوزي خضر على العمل داخل الاستوديوهات، بل امتدت إلى صداقة دائمة كانت تُسعدنا كلما التقينا. فكانت مدينة برج العرب السكندرية، حيث كان يسكن، محطتي المتكررة معظم شهور الصيف، ونلتقي هناك في لقاءات ثقافية تبادلنا فيها الرؤى والأحاديث. وشهدنا معًا أيامًا ثقافية رائعة في مؤتمر أدباء مصر 2024 بمدينة المنيا، قبل أن نشترك في لحظة تكريم لا تُنسى في يوليو 2025، حين نلنا معاً جائزة باشراحيل الثقافية في المجلس الأعلى للثقافة.
ولد الدكتور فوزي خضر في الإسكندرية عام 1950. لم يكن باحثًا عاديًا، بل كان أكاديميًا شغل مناصب هامة منها: أستاذ الأدب والنقد بكلية المعلمين بالطائف، وأخصائي المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، ومستشار بالهيئة العامة لقصور الثقافة. نال الماجستير عام 1995 في الموشحات في العصر الغرناطي، والدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى عام 2000 في عناصر الإبداع الفني في شعر ابن زيدون.
وكان الراحل أحد أبرز الأصوات الإبداعية في الشعر العربي الحديث، وعضواً فاعلاً في اتحاد الكتاب ورابطة الأدب الإسلامي والجمعية المصرية للدراسات التاريخية. وقد أثرى المكتبة العربية بعدد كبير من المؤلفات البارزة مثل: ديوان فوزي خضر، ابن زيدون: شاعر الحب المعذب، العلم العربي في حضارة الغرب، وإسهام العلماء العرب في الحضارة الإنسانية.
على مدار مسيرته، حصد الدكتور فوزي خضر العديد من الجوائز المرموقة التي تؤكد قيمته:
الجائزة الأولى في الشعر لعدة أعوام (1972-1978). الجائزة الأولى في التأليف الإذاعي على مستوى الوطن العربي (1991) من الإمارات. جائزة الدولة التشجيعية في الشعر (1994). جائزة الأمير عبد الله الفيصل العالمية للشعر العربي في دورتها الأولى (2019). جائزة الدولة للتفوق (2020).
لقد كان الدكتور فوزي خضر رمزاً للعطاء غير المنقطع؛ وبرحيلة يوم الخميس 4 ديسمبر 2025 فقدنا كاتباً عميقاً وناقداً بصيراً وزميلاً عزيزاً. سيبقى صوته وتأثيره محفوراً في ذاكرة الثقافة العربية والإذاعة المصرية.
التعليقات