التصوف ليس مهربا ولا منفي اختياريا يحمي العجزة والكسالي واللاهين، وإنما هو: عبادة تضبط العمل، وعمل يزكي العبادة، والدين سلوك لا مظاهر، وخاتم الأنبياء يقول: الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل.. و.. إطلاق اللحية سهل.. ولبس الجلباب الأبيض سهل.. وقراءة كتب الدين والعناوين واقتناؤها سهل.. والوعظ والكلام بالآية والحديث سهل.. ولكن العمل بأقل قدر منها هو الصعب.. الصعب هو أن يستبدل الواحد منا خلقا حسنا فيه بآخر سيئا، ويستبدل التواضع بالكبر، واللين بالفظاظة، والعفو بالانتقام، والحلم بالغضب، والتروى بالاندفاع، والزهد بالشراهة.. من الصعب أن يغير أحدنا إعجابه بنفسه إلي معرفته بها حتي تصبح نفسه العدو الأكبر بعد أن كانت المعبود الأكبر، ولا يخلو زمان ولا مكان من المدعين والكذابين والمتاجرين بالدين.. ويقابلهم أيضا بفضل الله رجال علي الطريق الصحيح.. رجال أفشوا السلام.. رجال صدقوا يبذلون حياتهم في سبيل الحق والإصلاح.. رجال مسيرة خل نفسك وتعال.. رجال الصوفية الحقة أمثال الشيخ أبي الحسن الشاذلي ومحيي الدين عربي وإبراهيم الدسوقي.. و.. و.. والسيد أحمد البدوي..
السيد.. لقب إذا ما أطلق مجردا لا ينصرف إلا علي السيد البدوي وحده..
السيد أحمد البدوى الذى كان حجم المشاركة هذا العام فى مولده يفوق الوصف ليبلغ المليونى زائر - وإن كان الحضور المكثف أمرًا معتادًا فى هذه المناسبة - مما أثار تساؤلات وجدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعى وبين الإعلاميين حول طبيعة الممارسات التى تحدث فى المولد وحدودها بين الإيمان الشعبى والموروث الدينى، حيث رأى الأزهر ودار الإفتاء أن السيد البدوى ولى من أولياء الله الصالحين يُنظر إليه «كقطب عارف وولى» سليل آل البيت وإمام عارف، وأن محبته من أمارات الصلاح وأن شهرته الواسعة وكراماته جعلت من طنطا مركزًا روحيًا وعلميًا منذ استقراره فيها، حتى أصبح جامع الأحمدى يوصف بأنه «شقيق الجامع الأزهر»، وأن البدوى من كبار أولياء الأمة المحمدية الذى جمع بين الحقيقة والشريعة وبلغ الغاية فى الأخلاق، وجاء فى قول الشيخ محمد متولى الشعراوى بأنه من المحبين لسيدى أحمد البدوى وأن تاريخه طويل ومجيد وأن له كرامات.. ويظل قول الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر بوصلة للاتجاه فى أى من أمور اليقين وهو المردد لمعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم النظر للاختلاف إذا ما وجد هناك السواد الأعظم الذى هو بمثابة الإجماع بل مصدرًا للتشريع.. وكان الرئيس أنور السادات من أكثر المريدين للسيد البدوى وحريصًا على زيارة مقامه فى طنطا بانتظام، حيث يجد فى رحابه السكينة والطمأنينة، وقبل اتخاذه قرار حرب أكتوبر سافر لوجهته فى طنطا ساعة أزمع فيها بالتنفيذ ليصحبه الشيخ أحمد حجاب إمام وخطيب المسجد إلى غرفة مقتنيات السيد البدوى وألبسه جبته وسبحته وبشَّره بالنصر وأوصاه أن يجعل شعار الجيش المصرى: الله أكبر.. وكان السادات مزودًا بعزيمة ما جاء فى رؤية الشيخ الصوفى عبدالحليم محمود شيخ الأزهر آنذاك من رؤيته الرسول صلى الله عليه وسلم يحارب مع الجيش والعلماء وعادوا معهم بأسرى العدو.
شيخ العرب أحمد العارف بالله.. البدوي. البدري. الملثم. الزاهد. الفتى. «العطاب» لفظ مغربي معناه الفارس المقدام. محرش الحرب. «أبوالعباس» العباس من أسماء الأسد. الأسد الكاظم. جياب الأسير الذي شاع غناء المصريين له: الله الله يا بدوي جاب اليسرى، أى الذى أتى بالأسرى بفضل كراماته بقيودهم من أسر الإفرنج.. أبو فراج. ندهة المضام. ولي الله. الصامت. الزاهد. بحر العلوم. باب النبي.
العارف بالله. السطوحي نسبه لأنه أقام بالسطح ببيت الشيخ ركن الدين ليجعله مركزا لجامعته. العيسوي نسبة إلي سيدنا عيسي، الصالح، الصامت شيخ العرب... تلك ألقابه.. أما اسمه الحقيقي فهو أحمد بن علي بن إبراهيم وينتهي نسبه إلي الإمام الحسين، وكان أجداده قد رحلوا من الحجاز سنة73 هـ. في عصر الدولة الأموية عندما زاد اضطهاد الحجاج بن يوسف الثقفي للعلويين، واستقروا بمدينة فاس ليتزوج إبراهيم جد أحمد بابنة شقيق السلطان واسمها أسماء لتلد عليا الذي تزوج بدوره فاطمة المزينة ــ بنت محمد بن عبدالله بن مدين بن شعيب من بني مزينة من زقاق البحر بغرب مراكش، وكان عم أمها سلطان المغرب ــ فولدت له ثمانية من الأبناء: حسن ومحمد وأحمد وفاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم وفضة، وكان مولد أحمد البدوي في نهاية عام596 هـ بمدينة فاس بعد سقوط الدولة الفاطمية وقيام الأيوبية علي يد صلاح الدين بنحو29 سنة.. وكانت فاس منتجع القاصدين والعلماء وبها جامع القرويين مركز إشعاع الفكر الإسلامي حتي قيل فيها يكاد العلم يتفجر من حيطان فاس، وهناك حفظ البدوي القرآن وشرع في علم القراءات والتفقه علي مذهب الإمام مالك، ومع بلوغه هاجرت أسرته إلي مكة المكرمة عام609 هـ مرورا بمصر حيث استقرت بها خمس سنوات تسكن القرافة ــ وهو اسم بلدة كبيرة بأسواقها ومساجدها وليست منطقة للمقابر ــ وذلك في عهد الملك العادل سيف الدين شقيق صلاح الدين الأيوبي.
وإذا ما كان أحمد البدوي قد تفقه في المغرب علي مذهب الإمام مالك لسيادة المذهب المالكي في بلاد المغرب والأندلس فإنه لما قدم مع أسرته إلي مصر كان المذهب الشافعي هو السائد فيها فاستهواه ليتفقه علي المذهبين المالكي والشافعي، وفي مكة مكث ينهل العلم ويختلط بالناس ويتقن الفروسية ليلقب باسم أبوالفتيان ولازم الصيام، وداوم علي القيام، واتخذ من جبل أبي قبيس خلوة له.. وقرر الرحيل إلي العراق عام634 هـ ليزور بغداد ثم أم عبيدة بلدة الرفاعي.. وأفاض الله عليه أنواره وأمر بالسير إلي مصر حيث وصلها عام637 هـ ليميل وجهه تجاه طنطا التي كانت تعرف وقتها باسم طندتا، حيث دخلها في عهد الملك الكامل بن العادل ابن شقيق صلاح الدين الأيوبي لينزل بدار الشيخ ركين التاجر ويقيم بسطحها ما يقرب من12 سنة وينال فيها خيرا عميما بفضل بركات ونفحات البدوي، وقد اختار الإمام السطح لعدة اعتبارات منها رفع المشقة والحرج عن الداخل إلي المنزل والخارج منه، والمحافظة علي الوقت بحيث لا يعطله متطفل دون مبرر، ومراعاة أوقات الصلاة والدعاء، وإطلاق عنان الفكر مع السماء الواسعة في الاستغراق والتأمل، إلي جانب أن السطح رمز للقمة والسمو وللارتقاء في ذروة كماله واتصاله، ومن هنا أطلق علي دعوته السطوحية.. ومن بعد وفاة الشيخ ركين انتقل السيد البدوي إلى دار ابن شحيط ــ شيخ الناحية ــ فأقام بها 28 سنة حتي لقي ربه، وهذه الدار تقع في داخل المسجد الأحمدى الحالي، وكانت بالقرب من مسجد البوصة أقدم مساجد طنطا والذي عرف في القرن الثالث عشر الهجري باسم مسجد البهى، الذي كان له شأن عظيم في تاريخ البدوى، فقد سكن بالقرب منه وكان يتعبد فيه ويقيم صلواته، وكان له إمامان يصليان به، وإذا جن الليل يقرأ القرآن إلي الصباح.. وفي أكثر أوقاته كان شاخصا إلي السماء، ويسألون خليفته عبدالعال الأنصاري: كيف كان حال الشيخ علي السطح؟ وهل كان كثير الغياب كما يقولون؟ فيجيب المريد بأن حضوره أكثر من غيابه.. وكانت جامعة السطح منتجعا للعلم والمعرفة يؤمه العلماء والمجادلون من كل درب، وكان قاضي القضاة بالديار المصرية يبعث بمندوبه ــ من كبار العلماء ــ ليسأل الإمام البدوي عما يندر الإلمام به من ضروب المعرفة، فيستفيض في الجواب حتي يستغرق رده علي مسألة علمية في علوم التصوف ما بين الظهر والعصر..
ومن أبرز تلاميذ البدوي الذين تخرجوا في جامعة السطح الأحمدية علي مدي ثمانية قرون وتولوا الدعوة والهداية داخل مصر وخارجها الإمام عبدالوهاب الشعراني والإمام نورالدين الحلبي وأيضا الدكتور عبدالحليم محمود الذي جاء في كتابه السيد أحمد البدوي في ص46 عن علاقة البدوي بالقرآن: بمجرد الاستقرار بمكة بدأت الدراسة المنتظمة، فقد أجاد القرآن، وأجاد فن التجويد، وأتقن تعلم القراءات، فكان يقرأ القرآن بالقراءات السبع..
هذا وإن كان انشغال البدوى في الدعوة وتربية النفوس لم يتح له الوقت للكتب والتأليف فكان ممن يردد لسان حالهم «كتبي صدور أصحابي» مع أن التاريخ قد حفظ بعض مؤلفاته وضاع البعض الآخر منها لعوامل سياسية مثل فتح السلطان سليم الأول العثماني لمصر923 هـ ــ1517 م ونقله معه للأستانة كل ما عثر عليه من مؤلفات وتحف ونفائس من بينها مؤلفات البدوى.. نقلها سليم إلي متاحف الأستانة ومنها للمتاحف الأوروبية ومكتبات برلين وليبزج وباريس وجوتا وغيرها، كما أشارت بذلك دائرة المعارف الإسلامية.. ومن مؤلفات البدوى الموجودة في مصر حزب الإمام البدوى، ومجموعة من الأدعية والصلوات علي النبي التي صنفها عبدالرحمن بن مصطفى عيدروس في القرن الثانى عشر الهجرى وسماها فتح الرحمن، ووصايا من تعاليمه الصوفية إلي خليفته عبدالعال الأنصارى، وكتاب «الأخبار في حل ألفاظ غاية الاختصار في الفقه الشافعى»، هذا إلى جانب من الأشعار الصوفية في علم الحقائق والمناجاة والابتهالات أودعها الشاعر المعاصر فاروق شوشة في مجموعته الشعرية «أحلي عشرين قصيدة في الحب الإلهى»..
وأبدا لم يكن البدوي منعزلا عن قضايا مجتمعه.. كان بين الحرب والمحراب فقد اشترك وأتباعه في حروب الصليبيين في المنصورة أمام لويس التاسع عشر فكان لهم النصر، وفي ذلك ذكر الإمام الحلبي في سيرته ولم يكن في فرسان مكة والمدينة أشجع ولا أفرس منه حتي سمى محرش الحرب، وفي أكثر من مرجع أن السيد أحمد البدوى كان أحد رجال الفتوة الصوفية في مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، وكان لها دورها البطولي في صد الحملة الصليبية السابقة، والاشتراك في اصطياد الصليبيين كأسري في طلعات فدائية، وفي كتاب شذرات الذهب لابن العماد: إنه بوصول السيد البدوي إلي مصر قادما من المغرب تلقاه الظاهر بيبرس بعسكره، وأكرمه وعظمه، وكان البدوي محل إعظام الملك قاهر التتار وموجها له..
ومن صفات البدوي أنه كان ضخما طويل القامة غليظ الساقين عظيم الوجه خفيف العارضين كث اللحية قمحي اللون أكحل العينين أقني الأنف طويل الذراعين بوجهه ثلاث حبات من أثر الجدري، في خده الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتان، وعلي أنفه شامتان في كل ناحية شامة سوداء، وندبة بين عينيه من طعنة بموس إثر جرح تسبب فيه ولد أخيه الحسن بالأبطح حين كان بمكة، يعلو وجهه الكبير مسحة من الهيبة والجلال، ولصوته غير الجهير نبرات حادة حاسمة.. مرحا إذا شاء المرح. جادا إذا شاء الجد. ضنينا في أخباره حريصا في عباراته، ومن عاداته محبة أن يسأله الناس وغضبه إذا تركوا سؤاله.. ويسألون لماذا لم يتزوج السيد البدوي فتأتي الإجابة لانصرافه إلي العبادة، وقد يكون من عوامل إعراضه عن الزواج ما رواه المؤرخون من أن أخاه الحسن تزوج سنة617 وتزوج أخاه محمد سنة626 ولكون أحمد يليهما في السن، فقد كان من المفترض أن يليهما في الزواج، إلا أن والده توفي سنة627 وبعدها لحق به محمد عام631 فتفككت الأسرة ليعزف البدوي عن الزواج عندما عرضه عليه أخوه الحسن قائلا له أنا موعود بألا أتزوج إلا حور العين.. وتبرز في سيرة البدوي قصته مع فاطمة بنت بري التي وثقها المؤرخون وكان من أبرز المثبتين لها الإمام الشعراني والدكتور عبدالحليم محمود والشيخ نورالدين الحلبي، ويختصر الشعراني القصة بقوله: كانت بنت بري امرأة لها حال عظيم وجمال بديع وكانت تسلب الرجال أحوالهم فسلبها سيدي أحمد البدوي حالها وتابت علي يديه وتفرقت القبائل التي كانت قد اجتمعت حولها أعواما وكان شرط البدوي في العفو عنها ألا تعود للتعرض للرجال وأن تعيش برأس مالها.. وقد أشاد بهذه القصة المستشرق فولرز في صدر ترجمته عن الإمام البدوي إشادة رائعة حيث قال: ثم إنه انتصر علي فاطمة بنت بري التي كانت تسلب الرجال أموالهم ورفض الزواج منها..
في حين وصف المؤرخان ليمتان وماينز في دائرة المعارف الإسلامية قصة فاطمة بأنها مغرقة في الخيال والعاطفة وأنها تعود إلي الأساطير المصرية القديمة.. هذا رغم ثبوت أن فاطمة من عشيرة بري إحدي العشائر البدوية التي كانت تقطن في شمال العراق قرب الموصل، وتسير علي نهج الإمام أحمد الرفاعي.
ويسجل التاريخ أشعار فاطمة في حكايتها مع السيد البدوي والتي منها:
كتبت في دفتر التأويل قصتنا
لكونها فاقت الأخبار والسيرا
لما ركبت وجئناه لننظره
رنا إلي ولي قد طول النظرا
لما أتانا عرفناه بحليته
قلت أكرموه ولا تبدوا له ضررا
ونهضت قمت علي الأقدام قائمة
وقلت خذ مهجتى والسمع والبصرا
شلت الخمار عن وجهي لأفتنه
ثم السوالف قد أسدلت والشعرا
شال اللثامين عن وجهه وبينه
كأن عينيه جمر يقدح الشررا
ناديته باسمه جهرا وكنية
فلم يجبني ولم يبد لنا خبرا
وتأتي وصية السيد البدوي لخليفته عبدالعال: يا ولدي أوصيك بتقوي الله في السر والعلانية، وإياك والاستغراق في حب الدنيا واعلم يا عبدالله أن أحسنكم خلقا أكثركم إيمانا..
ولا.. يصلح الناس إلا إمام، ولا يصلح الإمام إلا بالناس!
التعليقات