لم يقبل المصري يوما حياة بلا كرامة، لم يقبل المصري يوما حياة فُرضت عليه بأن يحيا بداخل قبضة الاحتلال، وتحت سلطة تملك وتحكم هي ومن يواكب هواها ومَن دون هؤلاء فله الفقر والجهل والمرض، وما لم يقبله المصري على نفسه لم يقبله على غيره.
بعد إعلان بريطانيا نهاية الانتداب على فلسطين وإعلان الأمم المتحدة تقسيمها إلى دولتين دولة يهودية ودولة عربية، أي نشأة دولة يهودية في قلب الوطن العربي، رفضت الدول العربية السكوت دلالة الرضا وآثرت الحرب دلالة الرفض.
بداية من مايو ١٩٤٨ إلى مارس ١٩٤٩، دارت حرب على أرض فلسطين شارك فيها الجيش المصري والأردني والعراقي والسوري واللبناني والسعودي جنبا إلى جنب ضد الميليشيات الصهيونية الموجودة على أرض فلسطين بالإضافة إلى متطوعين يهود جاؤوا من خارج حدود الانتداب لمساندة أبناء دينهم وتفكيرهم.
شاركت المملكة المصرية وقتها في حرب ضد رغبة من هي في قبضتها حيث الاحتلال البريطاني، فكانت النتيجة هي هزيمة العرب بسبب الرشاوي والفساد حيث قيادة الجيش من جاهل مرة ومن خائن مرة، فقدنا العديد من شبابنا المخلصين غدرا في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل بل كانت لمصلحة العرب ككل.
وفي يوم ٢٦ يناير ١٩٥٢، جاء حريق القاهرة الكبير عندما فاض بالناس ساخطين على كبار التجار والملاك حيث استأثروا بالمال والعلم والعمل والسلطة عن غيرهم من عامة الشعب، ليكون كإشارة استغاثة "هنا تقع مشكلة" أي الصراع الطبقي الذي عانى منه الشعب المصري لسنوات قبل الثورة واُتهمت الثورة زورا بخلقه من عدم.
جيش ينهار لتصبح دولة ضعيفة منقادة بلا أمن ولا حماية، نظام رأسمالي يفتك بعامة الشعب يوما بعد يوم وغيرهما من الأسباب التي تطلبت وقفة لوضع حد لسوء الأوضاع في البلاد.
وفي يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢ في ثورة سلمية استطاع تنظيم الضباط الأحرار بقيادة اللواء محمد نجيب أن يسيطر على البلاد كما أجبر الملك على التنازل عن عرشه إلى وريثه الشرعي واستمر الوضع هكذا إلى إعلان إلغاء الملكية وقيام الجمهورية المصرية بإعلان اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية في ١٨ يونيه ١٩٥٣، مع توقيع اتفاقية الجلاء بعد أربعة وسبعين عاما من الاحتلال البريطاني لنتخلص من الملكية والاحتلال في رحاب الحركة المباركة.
فرحنا وباركنا واحتفلنا بذكراها عاما وراء عام ويكأنها النهاية السعيدة لفيلم سينمائي مليء بالمعاناة، لنرتطم بحياة جديدة، بحرية بمسئولية وطن وشعب، كيان له تاريخ من الحضارة والنضال بعد سنوات من التبعية، صار الأصدقاء هم أصدقاؤنا نحن المصريون وليس المستأجرين، وكذلك الأعداء أصحاب المصالح المتضاربة.
أصبحت الثورة المصرية مثالا يُحتذى به من قبل دول شقيقة ما زالت في قبضة الاحتلال، أصبح من مسئولية مجلس قيادة الثورة مساندة أشقائها لخلق حركة تحررية جماعية لجميع الدول العربية وقد كانت. فساهمت الثورة في استقلال الكويت، وفي الدفاع عن حق الصومال، وفي دعم الثورة العراقية، وفي ثورة اليمن الجنوبي ضد الاحتلال حتى إعلان الجمهورية، ومساندة الشعب الليبي في ثورته، مع دعم حركة التحرر في تونس والمغرب والجزائر حتى نالوا الاستقلال.
كل هذا كان أمام العيون وليس في الخفاء فلم نخشَ في الحق لومة لائم؛ فجنينا من الأعداء ما جنينا، حيث أقوى دول العالم صارت بين استقلال وآخر عدوة ساخطة على مصر، لتدخل مصر سلسلة من الحروب مهزومة مرة ومنتصرة ألف مرة من العدوان الثلاثي ونكسة ١٩٦٧ وحرب أكتوبر المجيدة.
ليظل السؤال قائما ولكن مع عدم أهمية إجابته، فإذا كانت الثورة هي النهاية السعيدة بعد العناء أو بداية لمرحلة جديدة مختلفة في ألوان عنائها، فلا ندم ولا بكاء على الحصول على الحرية بلا خوف ولا ذل، بل يزيدنا هذا الألم الذي عايشناه تمسكا بالحرية لأنها أغلى ما نملك.
التعليقات