لقد انجرفنا وراء التيار؛ تيار "التريند" و"السوشيال ميديا"، حتى باتت هي الحقيقة، ونسي الإعلام أنه الأصل الباقي. فكل ما نعيشه من نكبة انحدار الذوق العام، وتدهور الفنون، وخفوت نجم الثقافة الحقيقية، لن نُلقي بإثمها كاملًا على "السوشيال ميديا"؛ فلجميعنا يد فيما آلت إليه بلادنا.
نكبة ستأخذ وقتها، مثلما سبقها من نكبات مرّت على مصر، فأخذت منها ما أخذت، وتركت لنا العبرة والموعظة.
ولكن الاعتراف بوجود المشكلة هو أول خطوات الوصول إلى الحل، فكلما أهملنا، كلما انتشرت، وزاد تشبثها في المجتمع أكثر فأكثر، وبالتالي إطالة مدتها وصعوبة التخلص منها بلا حدوث خلل. فإن بتر الطرف الفاسد مبكرًا، يحمي باقي الجسد من الضمور فالهلاك.
عندما ضجر الشارع المصري من الأعمال المقدّمة في شهر رمضان السابق؛ التي لا يستحق أغلبها أن يُقال عنها "أعمال درامية" في التلفزيون المصري، خُيّل لي أنها النهاية؛ نهاية الفساد، فلن يرحم الإعلام المصري كل من تسبب في إهانة لمصر على أي حال.
لنجد أنه، وبمجرد هدوء الأوضاع، خرجت الفئران من مخابئها، محتفلين بنجاح أعمالهم المشينة في الإعلام المصري نفسه؛ بلا خجل أو ضيق، وكأن لهم الحق في تدمير واجهتنا الثقافية الأولى في مقابل أرباحهم المادية البخسة.
لقد آلت الدراما المصرية إلى "حظيرة"، إلا من رحم ربي. فالحق يُقال: إنه لا يزال لدينا جهة أو جهتان تعنيان بتقديم دراما صحيحة، تناقش قضية، أو تنقل تجربة إنسانية فريدة، أو تقدّم كوميديا ممتعة للجمهور بلا إسفاف أو ابتذال.
فهنا فقط تتحقق الدراما في مرادها، بين متعة المشاهد، وتغذية عقله، وإشباع وجدانه بفن راقٍ.
ولكن في مقابل تلك الأعمال التي يمكن عدّها على أصابع اليد الواحدة، هناك وابل من السوقية والانحدار أخلاقيًا وثقافيًا وفنيًا – إن كانوا يظنون هذا فنًا – وكل ذلك بشكل مسيء لمصر، صاحبة التاريخ الطويل في تقديم أرقى الفنون.
ولكن اللوم الأكبر يجب أن يقع على الإعلام الذي فقد دوره الأساسي في النقد والتنوير، فأضحى مدعاةً للنفاق، المنافي لأخلاقيات المهنة أولًا، ولمبادئ الإعلامي الصادق ثانيًا.
فنجد "الإعلامي الكبير" مستضيفًا لأبطال العمل الأكثر إثارةً للخجل، مبجّلًا إياهم بألطف عبارات الترحيب والتكريم.
هل هذا لأن الإعلام أضحى جزءًا من الوسط الفني؟ علاقات وصداقات وتأرجح؛ فنجد الإعلامي فنانًا، والفنان إعلاميًا.
وهذا يأخذ بنا قليلًا إلى تأمل وضع الإعلام، أو برامج "التوك شو" تحديدًا، في مصر. وبعد هذا التأمل، لن يبقى هناك داعٍ لاستغراب ما سبق ذكره عنهم؛ فجميع برامج "التوك شو" الموجودة حاليًا تلقى صدى يسمونه "نجاحًا"، بكشف المستور من الخبايا والفضائح في حلقة درامية بالكامل، كل سؤال مكتوب، وكل رد محسوب، وكل إهانة من المضيف لها ثمن، وكل دمعة من الضيف لها ثمن آخر.
ولكن من يدفع ذلك الثمن؟ هل المنتج الذي حصد الملايين من كثرة المشاهدات ثم أعطى القليل منها للقائمين على العمل؟ أم نحن الذين أضحينا سلعة رخيصة، يدفع ثمنها كل مستخدم ومشاهد؟
نحن؛ الذين أضحى فنانونا يظهرون أمام العالم كحفنة من السكارى والمجرمين، لا يتحدثون إلا عن ذكرياتهم في السجن بسبب المخدرات، وجولاتهم في المصحات النفسية بسبب حياتهم الشخصية المباح الاطلاع عليها من أي مكان.
والجديد الآن هو المجيء بشخصيات مجهولة، سبق لها العمل في أحد الفنون في عمل أو أكثر، ثم ابتعدت عنها الأضواء – وهذا يحدث في العالم كله وليس في مصر فقط – فيخرجون على الناس باكين، مستعطفين، طالبين المساعدة المادية من أجل متطلبات الحياة الأساسية، وكأن رزقهم توقف عند فنهم، وأن الله سلب منهم مصدر رزقهم الوحيد – وحاشى لله ذلك.
لو يخبرهم أحد أن الفن لم يكن يُقدّم يومًا إلا من أجل الفن وحده؛ فكان الفنانون ضباطًا، وطيارين، وأطباء، ورجال أعمال، وموظفين؛ فعاشوا كرماء بالفن ومن دونه، ومن اكتفى بالفن مصدرًا لدخله، مات فقيرًا، وثوت جثته في مقابر الصدقة.
كان الوسط قاسيًا، لكنه كان صادقًا، كان حقًا وسطًا فنيًا.
وعند النظر إلى إعلام ذلك الوقت، نتذكر الإعلامي المثقف، المهذب، الملتزم بأخلاقيات المهنة والمجتمع والضيافة؛ فكان يعامل الضيف باستدعاء المعنى الألطف من قصته، مقتنصًا لما في حياته من جميل، لإظهاره من فن وثقافة.
وهذا لا يعني أن هؤلاء الفنانين كانوا ملائكة بلا أخطاء، ولكن لأن ما لديهم لنا هو فنهم، وتمثيلهم المشرف لمصر فقط؛ وليست حياتهم الشخصية.
وكان هذا هو دور الإعلام: التنوير والتثقيف، فكان المقابل المادي الذي يأخذه المضيف في مقابل حسن إدارة النقاش، وفتح مجال مريح يأخذ بالضيف الفنان لأعلى درجات السمو في الإحساس.
والمقابل الذي يأخذه الضيف هو مقابل اطلاع الجمهور على جوانب من فكره، وحياته، وفنه، حبًا واستفادة.
فالأكيد الآن أنه يجب علينا التحرك وبداية التهذيب، ولكن بأيّهما نبدأ؟
بمقاطعة – بل بمحاربة – كل عمل فني لا يحترم حمله لاسم مصر؟ أم مقاطعة برامج "التوك شو" المثيرة، بمقاطعة كل ما يخصها على مواقع "السوشيال ميديا"؟ أم بتنفيذ كلا الحلّين معًا؟
لكم الحكم والقرار... والنتيجة.
التعليقات