ما أجمل صباح الخريف! وما أصعبه. صباح مزدحم بأولئك الطلبة المهرولين إلى مدارسهم وجامعاتهم، تاركين الأيام المسموح بغيابها على حالها بلا مساس لصقيع الشتاء. ففي تلك الأصباح، لا شيء في الدنيا يعادل نهوضك من السرير الدافئ.
وبسبب ذلك الزحام، لا نحظى بصباح آدمي أبداً. صراع على وسائل المواصلات، واستغلال من السائقين. المقاعد الثلاثية تكفي لأربعة أشخاص، وخمسة إذا لزم الأمر، وتتضاعف التسعيرة المقررة من الحكومة أمامك، وأنت مستعد لتنفيذ كل شروط السائق الظالمة، على الرغم من أنك لست راضياً. لست راضياً، ولكنك تريد الوصول إلى جامعتك، وهذه هي الطريقة الوحيدة. فإن اعترضت، ستجد نفسك وحيداً أمام زوبعة من الشتائم والكلمات القاسية التي سيعكر بها السائق يومك كله وليس مجرد الصباح. وبعدها، ستنزل من العربة مجبراً لتبحث عن وسيلة مواصلات أخرى، وقد تجد وقد لا تجد.
وعادةً ما يكون سائق المواصلات العامة مخيفاً بالنسبة للطلاب، فكلامه أوامر، وكأن المستقبل أصبح بيده هو وليس بيد الله، والعياذ بالله.
اليوم، وبعد أن استطعت أخيراً وبعد معاناة أن أحصل على مكانٍ في العربة المتجهة نحو الجامعة، بغض النظر عن سوء حالة المقعد وعدم الأريحية التي يقدمها، ولكن مجرد الحصول عليه في تلك الحالة هو حلم كل طالب في الصباح الباكر. لأجد رجلاً في أواخر الأربعينات من عمره تقريباً، وكان السائق في نفس العمر تقريباً. طلب السائق من الرجل بعجرفة لا متناهية أن يتزحزح قليلاً ليأخذ رجلاً آخر إلى جانبه على الكرسي نفسه.
ليرفض الرجل بشدة، وفي تلك اللحظة، خطف الرجل أنظار جميع الركاب بنظرة مليئة بالصدمة والعتاب. فدائماً ما يؤول ذلك الرفض إلى مشاحنة طويلة تؤدي لتأخر تحرك العربة أو عدم تحركها أصلاً. وقبل أن يطلب أحد منا نزول الرجل، سارع الرجل قائلاً: "هدفع لاتنين"... فانتقل نظر الجميع إلى السائق في انتظار رده، فهناك من يرفض هذا، ولكنه وافق على العرض.
ولكن الرجل لم يسكت، بل استكمل حديثه مبتسماً وهو يقول: "فاضية والله فاضية... ولا تستاهل كل البهدلة وحرقة الدم اللي أنت فيها دي... خد اللي تاخده... اللي هتاخده من هنا هيتاخد منك من ناحية تانية"، والجميع في انتظار رد عنيف من السائق كما اعتدنا. فقال: "وبزيادة والله وبزيادة"... لتستمر الضحكات من الرجل وهو يقول: "وهتفضل كدا... هتاكل في الناس والناس تاكل فيك"... ليرد السائق بعينين مخنوقتين بالدموع، حتى آل لونها إلى اللون الأحمر قائلاً: "بياكلوا والله بياكلوا"... ثم انغلق باب العربة بهدوء وانطلق في طريقه.
ولأول مرة، لم أرَ ذلك الوحش الذي يعذبنا كل صباح للحصول على مالٍ إضافي. وجدت إنساناً عادياً بقلب رقيق. كل ما به أن الحياة قد ضاقت عليه مثلما ضاقت على غيره. ولكن كل هذا لم يقتل إنسانيته، بل خدرها قليلاً حتى يتمكن من استكمال حياته. ومع أقل وخزة، استيقظت وتحول بلحظة من وحش مخيف إلى شخص مثير للتعاطف. وهذا هو حال أغلب المجرمين. ولكن هذه المبررات قد تثير التعاطف، لكنها لا تبرر جرمه أبداً. ولكننا، وعلى الأقل، أصبحنا على يقين تام بأننا نعيش أزمة إنسانية بكل المقاييس.
التعليقات