"لن تتحرر فلسطين إلا بتوحيد العرب."
قالها عبد الناصر يومًا، وما زلنا نرددها من بعده، بإيمان لا يتغير.
ظهرت القومية الحديثة في بدايتها بصورة جذابة، كأي فكرة عظيمة في أول ولادتها، لكننا نحن من أسأنا استخدامها. لم تأتِ القومية لتقسم أو تفرّق، بل وُجدت لتوحد وتجمع. إنها تقوم على حق الشعوب التي تجمعها لغة واحدة، وهوية ثقافية مشتركة، وتاريخ ممتد، وأرض واحدة، في إقامة كيان مستقل يتمتع بالسيادة. كان جوهر الفكرة التخلص من الاستعمار واستعادة الكرامة.
وقد نجحت الفكرة في التأثير في وجدان الشعوب العربية منذ لحظاتها الأولى، ولا تزال آثارها واضحة في تضامن تلك الشعوب وقت المحن. لكن على مستوى التطبيق العملي، لم يُكتب للمشروع القومي أن يكتمل، بل وُئد قبل أن يتحقق.
بعد الحرب العالمية الأولى، دعَم العرب بريطانيا ضد الدولة العثمانية، ظنًّا منهم أن نهاية العثمانيين ستفتح الباب أمام حلم الوحدة العربية. كان هذا الحلم مستلهمًا من التجارب القومية في أوروبا، كالقومية الإيطالية والألمانية، التي ألهمت مثقفي العرب في تلك الحقبة.
لكن ما لم يدركوه آنذاك أن القوى العظمى وإن سقطت، فإن أطماعها لا تموت. كان المشرق العربي مطمعًا أساسًا للدولة العثمانية، فلما سقطت، ورثت بريطانيا وفرنسا ذلك الطمع، ثم انتقلت الراية اليوم إلى الولايات المتحدة. المشرق العربي ظل هو الهدف، والتاريخ يعيد نفسه بأسماء مختلفة.
إن وحدة العرب تحت راية واحدة تُرعب القوى الكبرى، ولهذا جُرّدت الأمة من عناصر قوتها. زُرع الاحتلال الإسرائيلي في قلبها، وزُرعت داخليًّا الطوائف والجماعات المتطرفة لتمزيق النسيج الواحد. فأصبحنا نرى دولًا منقسمة إلى شمال وجنوب، وأخرى تتناحر فيها الجماعات، فصرنا بين دولة تملك جيشًا بلا تمويل، وأخرى تملك مالًا بلا جيش. وكل هذا ليبقى العرب معتمدين على الخارج، أضعف من أن ينهضوا بأنفسهم.
حتى صار الكثير من القادة لا يرون أبعد من حدود دولهم، تحت مسمى "القومية الحديثة".
لكن، كيف يُطلب من مصر أن تبقى صامتة وشرقها يُباد، وجنوبها يحترق، وغربها تنخره الحرب الأهلية؟ التدخل هنا ليس خيارًا، بل واجب: إنساني تجاه الأشقاء، واستراتيجي لحماية أمنها القومي.
غياب المشروع القومي هو ما أوصلنا إلى هذا الحال. فالوطن العربي جسد واحد، متى بُتر منه عضو، ضعُف بأكمله. واليوم، نرى الأجزاء المبتورة تنزف وتتصارع، بينما الاحتلال يتمدد في الجسد بلا مقاومة، كما ينتشر السرطان في الجسد المنهك.
لو تأملنا الوطن العربي ككل، لوجدنا أرضًا زراعية غنية، وموارد نفطية هائلة، وجيشًا قادرًا على الحماية، وشبابًا بعقول واعدة للنهوض، وشيوخًا بالحكمة، وقائدا عظيما قادرا على جمع هذه الطاقات وتوجيهها.
أرض واحدة، ولسان واحد، وتاريخ وثقافة وهدف وعدو وهمٌّ ومصلحة... كل شيء مشترك. ما ينقصنا فقط هو الإرادة السياسية.
بأن نؤسس تعليمًا موحدًا، واقتصادًا متكاملًا، ودفاعًا مشتركًا، وإعلامًا قوميًّا صادقًا يعبر عن قضايانا، لا عن روايات المحتل.
إما أن نصحو من غفلتنا ونصنع وحدتنا فنصبح قوة عظمى، أو نبقى كما نحن: نُستَهدف واحدًا تلو الآخر... حتى لا يبقى منا أحد.
التعليقات