في العلاقات الإنسانية، ثمة مفهوم خفيّ لا يُكتب في العقود، ولا يُصرّح به في المحادثات اليومية، لكنه يُشكّل البنية التحتية لكل علاقة تدوم أو تنهار. هذا المفهوم هو "الرصيد العاطفي".
و رغم بساطة الكلمة، إلا أن معناها يتجاوز اللغة اليومية إلى عمق التجربة البشرية؛ فالقلوب، مثلها مثل الحسابات البنكية، تُفتح على الثقة وتُغلق على الإفلاس.
وهنا الرصيد لا يُبنى بالكلمات… بل بالأفعال. والخطأ الأكثر شيوعًا هو الظنّ أن الكلمات الجميلة تكفي.
لكن الحقيقة المؤلمة أن الكلام، دون دعم من السلوك، يتحوّل إلى عملة مزيفة.
فمن يقول "أحبك" ثم يختفي عند أول عاصفة، لا يزيد رصيده، بل يُشكّك في صدق معاملاته.
الرصيد العاطفي يُبنى عندما تلتزم رغم انشغالك،عندما تصغي رغم تعبك،عندما تبقى رغم قدرتك على الرحيل.
هذه التفاصيل الصغيرة لا تُسجل في الذاكرة فحسب، بل تُكوّن الثقة وتؤسّس للسكينة.
وما يُضعف الرصيد ليس فقط الأخطاء، بل الإصرار عليها رغم العتاب.
حين يشعر الطرف الآخر أن كلماته لا تُحدث فرقًا، يتسلل الانفصال العاطفي في هدوء.
فالعلاقات لا تحتاج إلى خيانة صريحة كي تنهار؛ يكفي أن يتكرر الإهمال، أن تُصبح المشاعر ثانوية، أن يُعامل العتاب كإزعاج، والوضوح كضعف.
- عندما تتجاهل وجع الطرف الآخر لأنك تعتبره "مُبالغًا"
- عندما تعتقد أن "السكوت" يصلح ما أفسدته الأفعال
- عندما تبرر تقلباتك العاطفية بأنها "طبيعتك"
كل ذلك لا يمر دون تكلفة… فالرصيد ينقص، والرصيد حين ينقص لا يُطرق له جرس إنذار، لكنه يُنبئك بالرحيل.
وهنا نجد ان العلاقات لا تنهار فجأة… لكنها تُستنزف
من أكثر الجمل شيوعًا بعد الفقد:
"لكنني لم أتوقّع أن تتركني!"
لكن من يتتبع مسار العلاقة بوعي، سيدرك أنها لم تنهار في لحظة، بل تآكلت ببطء.
- كل مرة تم فيها كبت الألم بدل النقاش…كل مرة تم تأجيل المواجهة خوفًا من الفقد…كل مرة تكررت فيها الإهانة دون اعتذار صادق…
- كل ذلك كان خصمًا متواصلًا من رصيد المشاعر.
وحين ينتهي الرصيد، لا تعود الكلمات تنقذ،ولا الهدايا تُعوّض،ولا التوسلات تُعيد ما انكسر.
اذن كيف لنا ان نحمي الرصيد؟
فقط ب الاحترام غير المشروط , الغير مرهون بالمصلحة أو الرغبة.
والوضوح النفسي فلا تترك الطرف الآخر يتخبّط في تفسيرات غامضة لتقلّبك. احمِ الرصيد بمصارحة مبكّرة، لا باعتذار متأخر. وايضا ثبات السلوك مع تغيّر الظروف ,فمن يحبك في ضعفك كما في قوتك، هو من يستحق أن تُبقيه.أما من يُبدّل نبرته وفق مزاجه، فهو يخصم منك دون أن تدري واخيرالصيانة الدورية فكما تحتاج الحسابات البنكية إلى مراجعة، تحتاج القلوب إلى مراجعة دورية: هل ما زلنا نحترم بعضنا؟هل هناك عتب مؤجل؟ هل تحوّل الصبر إلى تنازل؟ هل ما زال بيننا ما يستحق البناء؟
وختاما لا أحد يرحل فجأة… هو فقط قرر ألا يُعيد الشحن
الناس لا تترك العلاقات لأنها ضعيفة فقط، بل لأن الرصيد انتهى، والرصيد لا يُستنزف مرة واحدة، بل عبر سلسلة من التفاصيل التي اعتُبرت "عادية".
احفظ رصيدك العاطفي كما تحفظ مالك…ففي النهاية، العلاقات ليست قائمة على الكلمات، بل على الاستحقاق.
والعطاء لا يُطلب… بل يُلهم.
التعليقات