تجثو على عتبات البحر، لا كمن يطلب المتعة، بل كمن يستجدي الحكمة من صمت الأزل، فالبحر ليس منظرًا يُتأمّل، بل مخطوطة كونية تُقرأ بالقلب قبل العين، والموج ليس مجرد حركة فيزيائية، بل سيمفونية وجودية تعزف على أوتار الروح نغمات لم تسمعها الآذان من قبل. وحين ترتفع الموجة، كالصرخة الأولى للمولود، تشعر أن شيئًا في أعماقك الساكنة يتململ، لا استغاثة بل استيقاظًا، لا طلبًا للخلاص بل عطشًا للمعنى، لأن النفس كالبحر محيط لا قرار له، يُخفي في قيعانه كنوزًا وأوحالًا، لآلئ وأشباحًا.
سطحها قد يخدعك بسكونه، بينما في أعماقها تدور معارك طاحنة بين ما كان وما سيكون، بين الحلم والحقيقة، بين الشوق والخوف، فتحسبها هادئة والعاصفة تعصف في قاعها بقوة الأعاصير الخفية، وتظنها ثائرة مضطربة وهي في جوهرها تبحث عن مرفأ للسلام، عن فجوة في جدار الصمت تتسلل منها الكلمات التي اختنقت في الحلق. وفي لحظة مباركة من لحظات الكون، تولد موجة جبارة تحمل في طياتها أحلام ألف قلب وآمال ألف روح، تسير كالمحارب الذي تحرر من أسر السكون، تعلو وتعلو حتى تصير رمزًا للعظمة التي تسكن فينا جميعًا، لكن القدر يكتب لها النهاية قبل البداية، تتكسر على أعتاب اليابسة وتذوب في رغوة بيضاء، تصير ذكرى موج بدلًا من موج حقيقي.
هكذا بعض المشاعر في دواخلنا: أحلام وُلدت عمالقة ثم ماتت أقزامًا، كلمات حب اختنقت في الصدر قبل أن تبلغ الشفاه، غضب مقدس ضد الظلم خمد قبل أن يولد التغيير، هي الأمواج التي حُكم عليها بالإعدام قبل أن تذوق طعم اليابسة. وفي النقيض من تلك المأساة، تأتي الموجة الصامتة، لا تعلن عن نفسها بالضجيج، لا تستعرض قوتها بالعنف، تسير بتواضع الحكيم وصبر الأم وثقة الواثق من هدفه، لا تتباهى بالوصول لكنها تصل، لا تعِد بالتغيير لكنها تُغيّر، تبلل اليابسة برفق كاللمسة الأولى للحب، تعيد تشكيل الرمال بحنان كالأم التي تصفف شعر ابنتها، تترك أثرها عميقًا في الذاكرة كالبسمة الأولى في الصباح.
تلك هي المشاعر الأصيلة، الأحلام المؤجلة لا المؤجهضة: حنين لا يُعلن عن نفسه لكنه يُعيد صياغة القلب، ألم لا يتباكى لكنه ينحت في الروح تماثيل الحكمة، دعوة خرجت من جوف الليل من روح منكسرة فهزت أبواب السماء بدلًا من أبواب الأرض. ثم تأتي اللحظة الفلسفية الكبرى: لحظة التقاء موجتين في لجة البحر الواسع، الأولى قادمة محملة بالبراءة والطموح كطفل يكتشف العالم لأول مرة، والثانية راجعة مُشبعة بالتجربة والخيبات كشيخ عاد من رحلة طويلة، فيكون الاصطدام الحتمي، تُمحق البراءة بسطوة التجربة، ويُقهر الحلم بثقل الذاكرة، تعود الموجة الفتية أدراجها محرومة من حقها في لمس اليابسة.
تمامًا كما يحدث في دواخلنا: أفكار تولد في القلب بشجاعة الأبطال ثم تُوأد في العقل بخوف الجبناء، مشاعر صادقة تُحطم على صخور التجارب السابقة، طموحات تموت قبل أن تتنفس لأن الماضي لم يمنحها تأشيرة المرور. يا صاحب الطريق، إذا أردت أن تعرف جوهر ذاتك الحقيقي، فلا تنظر إلى أعلى ما فيك من أحلام وطموحات، بل تأمل ما وصل منك إلى بر الأمان، انظر إلى ما تجاوز عواصف الشك والخوف ولم ينكسر، إلى ما ترك أثرًا في هذا العالم ولو كان همسة في أذن طفل، فالقوة الحقيقية ليست في الارتفاع المؤقت بل في القدرة الدائمة على الوصول، ليست في العلو الذي يُبهر العيون بل في التأثير الذي يُحيي القلوب.
النفس بحر عميق، والموج لسانها حين تعجز الحروف، فاستمع جيدًا لحديث الأمواج، قد تكتشف أنك أقرب إلى فهم أسرار ذاتك في لحظات الصمت أكثر من كل الكلمات التي نطقت بها في حياتك، قد تجد أن أعمق المحادثات هي التي تحدث بينك وبين نفسك في صمت الليل على شاطئ بحر لا يسمعه سواك...
فكن بحرًا، وكن موجًا يصل. لا تتهاون.............
التعليقات