ليست الجهالة مرتبة واحدة يُحشر فيها العقل، بل منازل ومقامات، كدرجات الليل بين عتمة خافتة وظلام دامس يبتلع النجوم.
فهناك جهالة الساعة، تلك التي تطرق باب المرء كطيف عابر، فيعجز فهمه عن لملمة خيوط المعنى في موقف، أو يتعثر وعيه أمام فكرة كما يتعثر السائر في العتمة. هذا ضلال بريء، أشبه بضباب الفجر – سرعان ما تبدده شمس الإدراك حين تشرق.
لكن ثمة ما هو أعتى وأشد فتكًا: عمى الجوهر. ليس انحجابًا طارئًا عن الحق، بل انطماس دائم في متاهات الوهم. نفس تضل طريقها في كل منعطف، وتأبى إلا أن تسلك دروب التيه، تخسر الود والثقة حتى تصبح كالجزيرة المهجورة في بحر الوحشة.
جهالة النفوس يتجاوز الفكر إلى الأخلاق؛ فكما يكون هناك عقلٌ بليد، يكون هناك قلبٌ بليد. ترى صاحبه يفسد الأرض، ويهدم الثقة، تبذر الشوك معتقدة أنها تزرع الورد، وتحصد العاصفة ظانة أنها حصدت النسيم.
والجهالة تتجلى في وجوه اخرى عديدة.
فهناك جهالة الرؤية، حين يحسب المرء السراب ماءً، فيلهث خلف أهداف بلا جذور، ويبني قصورًا في الهواء ثم يندهش حين تنهار.
وجهالة الوجدان، حين يهب القلب نفسه لمن يستحقر عطاءه، أو يتشبث بحبل منقطع، غافلًا أن في الانعتاق خلاصًا.
وكذلك جهالة التكرار، تلك اللعنة الأبدية حين يعيد الإنسان رقص الخطأ نفسه، منتظرًا من المصير أن يغير خطواته.
وجهالة السلطان، حين يُرعب الحاكم رعيته ظانًا أن في الرعب حماية لعرشه، وهو في الحقيقة يؤسس لزواله.
اما جهالة القطيع، فهي حين تنساق الحشود خلف صوت بلا بصيرة، فتصبح كأوراق الخريف تسوقها العاصفة إلى مصير مجهول.
لكن أصعب الجهالات تلك التي تنصّب نفسها حارسة للحقيقة، والتي تدّعي الفهم وهي في أعماق العمى. فالجاهل البسيط قد يُعلَّم، أما من يظن جهله علمًا فقد أُغلق عليه باب الهداية.
الحكمة ليست في أن نتجنب كل زلة فكر، فذلك محال على البشر، بل في أن نميز بين خطأ الساعة الذي يُضيء الطريق، وعمى الطبع الذي يقود إلى الهاوية. الأول درس يُتعلم منه، والثاني قدر يُستعاذ منه
التعليقات