لم يكن الكولوسيوم Colosseum الواقع في قلب العاصمة الإيطالية روما مجرد مدرج روماني الغرض منه الألعاب فقط، بل قُدر له أن يظل قطعة معمارية شاهدة على براعة الحضارة الرومانية في فنون العمارة والتشييد بطرائق دقيقة ومنظمة اشتهر بها الرومان على مدار تاريخهم. منذ أن بدأ البناء في عهد الإمبراطور فسباسيانوس Vespasianus عام 72 م وحتى الانتهاء منه في عهد ابنه الإمبراطور Titus تيتوس عام 80 م وقد تبين أن الرومان لم يتركوا أي شيء في ذلك البناء للصدفة. استخدم الرومان الحجر الجيري والصخور البركانية مع خليط الخرسانة الرومانية المتينة ليشيدوا بناءً راسخًا يتحمل الآلاف من المتفرجين المتعطشين للمنازلات والمبارزات العنيفة وقتال الحيوانات الضارية فضلًا عن عمليات الإعدام المروعة.
كانت الأروقة مزينة بأعمدة جميلة ذات طرز متنوعة ما بين دورية وأيونية وكورنثية، فضلًا عن الأقواس المزينة في الطابقين الثاني والثالث والتي تخطف الأنظار. كان ترتيب المقاعد التي تحملها المدرجات بالطبع ترتيبا يعكس طبقية المجتمع الروماني، حيث أسبقية الجلوس للأباطرة وحاشيتهم ثم أعضاء مجلس الشيوخ الروماني والأثرياء والوجهاء وانتهاءً بعامة الناس من الفقراء والبسطاء. وقد وضع الرومان مداخل ومخارج بين المدرجات لتسهيل الدخول والخروج بشكل سلس لا يسبب تكدس أو تدافُع كبير. لم ينسَ الرومان أثر الحرارة ولهيب الشمس في فصل الصيف وهطول المطر في فصل الشتاء وأثاراهم السلبية على الاستمتاع بالمشاهدة. لذلك ابتكر الرومان مظلات مرتفعة تشبه أشرعة السفن مثبتة في أعلى المدرج مربوطة بحبال يتم شدها وسحبها عن طريق بكرات في أرضية المدرج من الخارج، يتحكم بحركتها رجال أشداء من بحارة الأسطول الروماني.
أما عن ساحة الكولوسيوم ذات الأرضية المغطاة بالرمال فكانت مثالًا حيًا على الإبهار. لم يكن ما يجري على تلك الساحة من ألعاب بأعجب مما كان يقبع تحتها. لقد كانت تلك الساحة تخفي عن أنظار الجماهير عالم آخر أسفلها تُجهَز فيه عروض الألعاب ويتم فيه التدريبات المختلفة. كانت تتألف من شبكة أنفاق وممرات متعددة تصل حتى إلى خارج المدرج. ولإكمال المشهد لإضفاء عناصر الإبهار والتشويق كان هناك نظام يعتمد على روافع تحمل أبطال المصارعة وأقفاص الحيوانات من أسفل وترفهعم إلى أرضية الساحة كأنهم برزوا من العدم في مشهد مهيب يحبس الأنفاس.
يوجد الكثير والكثير من المعلومات التي أوردتها المصادر التاريخية عن الكولسيوم، لكن الحقيقة الجديرة بالاهتمام هي أن الحضارات العظيمة بها جوانب مظلمة لا يستطيع أن يخفيها أحد. لقد كان ذلك المدرج مسرحا للعديد من الجرائم التي تبين قسوة وبشاعة مجموعة من البشر في عصور سحيقة. لطالما انتُهكت حقوق البشر والحيوانات بأبشع الصور في ذلك المكان لمجرد التسلية والترفيه. ولعلنا هنا نتذكر درسًا مهمًا أنه مهما بلغت الحضارة أوج عظمتها وقوتها فإن القيم الإنسانية مثل الرحمة والتعاطف والعدالة هي قيم أصيلة لا يجب التخلي عنها مهما بلغنا من تطور وازدهار.
بـاحث في التــاريخ والتـراث
التعليقات