داليا ومروة وسالى ونيفين ونهلة أصدقاء عمرى منذ نعومة أظافرى، وأقربهم لى كانت داليا بحكم القرب الجغرافى والبعد التاريخى، كنا لا نفترق أبدًا من السابعة صباحًا حيث يمر علينا أتوبيس المدرسة وحتى السابعة مساءً وهو موعد انتهاء الواجبات المدرسية ومشاهدة التلفزيون باعتباره مكافأة الإنجاز، تزاملنا فى المدرسة وفى الجامعة وحتى بعد الجامعة ظللنا على نفس هذا النهج من القرب والالتصاق ولم تكن أيام الدراسة وحدها هى التى تجمعنا فقط بل أيضًا تمارين النادى اليومية من سباحة وباسكت وتنس وخروجات نهاية الأسبوع إلى السينما لمشاهدة أحدث الأفلام المعروضة، كما إلى المسرح والفرجة على العروض الكوميدية، إلى جانب التنزه فى الحدائق والملاهى وغيرها من الفسح الطفولية الممتعة.
ولا أنسى أيضًا سفرياتنا الصيفية إلى المعمورة ومرسى مطروح وفى إجازة نصف العام إلى الأقصر وشرم الشيخ والغردقة ونعود مشبعين بالسعادة محملين بذكريات حلوة وأيام وليال ساحرة قضيناها سويًا مليئة باللعب والضحكات والمقالب أحيانًا، وكان أهالينا يراقبون محبتنا ويباركون صحبتنا، كانت عشرتنا جميلة واتفاقاتنا سريعة ويسيرة ومقابلاتنا سهلة وكثيرة وأحلامنا بسيطة ولا مكان للهموم بيننا، ولم نحتج يومًا لوسائل التواصل الاجتماعى المتعارف عليها حاليًا، بل كنا نحن نتواصل اجتماعيًا وجهًا لوجه على أرض الواقع دون الحاجة لوسائل مساعدة، وكانت عندنا لعبة تشبه الفيسبوك لكنها أكثر تفاعلًا وتسمى الفرند بوك، وكانت عبارة عن كشكول يضم عشرة أسئلة قصيرة حول الانطباعات والعلاقات والإنجازات.
والمطلوب هو إجابة كل منا على هذه الأسئلة بكل صراحة ووضوح وحين ينتهى الكشكول من دورته الخماسية والحصول على كافة الإجابات من كل الأصدقاء، يبدأ كل منا فى قراءة ما كتبه والدخول فى مناقشات بناءة حوله وتلقى الملحوظات عنه من الجميع دون اعتراض، وكانت هذه إحدى وسائل التسلية التى نقوم بها وتجمعنا فى دائرة واحدة تطرح أفكارنا ومشاعرنا تجاه أشياء كثيرة بمنتهى الالتحام ودون فزلكة، ثم ماذا حدث؟، تزوجنا وأنجبنا وانشغلنا بحياتنا الجديدة أنا وداليا والتزاماتنا تجاه أزواجنا وأولادنا وأعمالنا وبعد أن كنا نتقابل يوميًا أصبحنا نلتقى مرة فى الشهر ثم مرة كل عدة أشهر وانتهى بنا الأمر إلى المصادفة فى إحدى المناسبات الاجتماعية سواء فرح لأحد أصدقائنا القدامى أو ولادة لأحد أقربائنا وهكذا، وصارت وسائل التواصل الاجتماعى مثل الإنستجرام والفيسبوك والواتس آب هى وسيلتنا الوحيدة للتواصل الافتراضى.
تجمعنا الكومنتات واللايكات ونتفاعل بالإيموشن وهى الرموز المبتسمة التعبيرية، وصار البعد هو سيد الموقف والوحدة قاسما مشتركًا أعظم، والفراغ رفيقًا لازجًا لا سبيل للخلاص منه، وفشلت كل محاولاتى ومحاولاتها للتلاقى، وكثرت الحجج والأعذار بسبب البعد الجغرافى مرة والأعباء المنزلية مرات إلى أن اتفقنا أخيرًا بعد طول انتظار أن نتقابل أنا وداليا وزوجها طارق فى أحد الكافيهات ولأننا لم نكن قد تقابلنا منذ فترة طويلة، قضينا أول نصف ساعة من الجلسة فى السؤال عن الأحوال والظروف المحيطة وأخبار الأهل والأولاد وما إلى ذلك ثم ماذا؟ ثم خلص الكلام وتسرب الملل وانفرد كل منا بمحموله الشخصى يقلب بين الصفحات ويقرأ التعليقات ويشاهد الفيديوهات، وفى هذه اللحظة تحديدًا تنبهت لفظاعة وسائل التباعد الاجتماعى التى تلهينا عن الاندماج الفعلى، وتذكرت لعبتنا الطفولية (الفرند بوك) وكيف كانت تجمعنا الإجابات عن الأسئلة المطروحة فى نقاشات لا تنتهى، وفكرت لماذا لا نلعب لعبة (الفرند بوك) وأطرح أنا سؤالًا واحدًا على داليا وطارق وأترك لهما حرية الإجابة بالكتابة على ورقة ثم يقرأ كل منهما إجابة الآخر ونعود لنتناقش، وكان السؤال عن انطباعهما عن أحداث السنة الماضية وأمسكت داليا بالقلم وكتبت...
«فى السنة الماضية أجرى زوجى عملية إزالة المرارة ولازم الفراش عدة شهور وترك وظيفته فى دار النشر التى ظل يعمل بها عشرين عامًا وتوفى والده فى تلك السنة ورسب أخى فى بكالوريوس كلية الطب لتعطله عن الدراسة بسبب إصابته فى حادث سيارة يا لها من سنة كانت سيئة للغاية»..
وأمسك طارق بالقلم وكتب...
«فى السنة الماضية شفيت من آلام المرارة التى عذبتنى سنوات وعدت فى تمام الصحة وتركت وظيفتى الاعتيادية وسأتفرغ حاليًا للكتابة والتأليف بعد أن تم التعاقد معى على نشر أكثر من كتاب مهم وأحمد الله أن والدى عاش حتى بلغ الخامسة والتسعين من غير أن يسبب لأحد أى متاعب ورحل فى هدوء دون أن يتألم ونجا شقيق زوجتى من الحادثة وشفى بغيرأى عاهات أو مضاعفات يا لها من سنة أكرمنا الله بها وانتهت بكل خير».
وقرأ كل منهما إجابة الآخر وبغض النظر عن الإجابات المختلفة لوجهات نظرهما فى نفس الأحداث، المهم أننا عدنا نتجاذب أطراف الحديث كما كنا فى سابق عهدنا دون أن تشغلنا التكنولوجيا التى أضرت أكثر مما أفادت ومن يومها اتفقنا أن نتقابل دومًا ونلعب لعبتنا المفضلة، ولا نسمح لوسائل عقيمة أن تجمعنا أو تباعد بيننا بعد الآن.
التعليقات