لطالما عانينا كثيرًا في غالبية المدن والحواضر العربية من انتشار العشوائية بكل صورها لفترات طويلة. عشنا عقودًا من الزمن نرى القبح الناجم عن التسارع في تشييد الكتل الخرسانية الصماء المتراصة بجوار بعضها البعض، والتي نسميها أبراجًا، ولا تراعي قيم الجمال المعماري وتفتقر إلى أبسط اللمسات الفنية الجميلة. لقد فقدت غالبية المدن العربية ذاكرتها البصرية وهويتها المعمارية الجذابة. إن معظم العواصم وكبريات المدن العربية تستحق أن تكون في أبهى صورة وأن تستعيد رونقها الحضاري، خاصة أنها تتمتع بتراث عريق يجعلها أشبه بمتاحف مفتوحة لا مثيل لها.
إن اختفاء المساحات الخضرات في عدد كبير من شوارعنا أمر يبعث على الحزن. إن تلك المساحات الخضراء هي متنفس طبيعي يبعث الهدوء في النفس، ويريح العين مما تراه يوميًا من مظاهر القبح التي باتت للأسف سمة أساسية لشوارعنا. يشعر المارة كأنهم في سباق مع الزمن للبحث عن رصيف للمشي عليه. لقد تم احتلال معظم الأرصفة من قِبل أصحاب الأسواق العشوائية، فضلًا عن اللوحات الإعلانية واللافتات قبيحة الشكل والمضمون والتي أكلت ما تبقى من مساحة على الأرصفة يمكن أن يسير عليها المارة. أما عن أشكال المباني وألوانها فهي مأساة بكل المقاييس. لقد غابت مساحات الجمال فيها وكأن فن العمارة أصبح رهينة لأفكار بعض شركات المقاولات التي أصبح همها السرعة في تشييد الأبنية وخفض تكلفتها دون مراعاة للهوية التاريخية للأماكن وثقافتها وطرز المعمار التي تميزها.
تحاول أجهزة التنسيق الحضاري وكل الجهات المعنية بذلك الأمر في العالم العربي التصدي لهذه المشكلات للقضاء على مظاهر العشوائية والقبح وفقًا للموارد المادية المتاحة. في السنوات الأخيرة بدأنا نرى المبادرات في الدول العربية – خاصة من المنظمات الأهلية والجمعيات التطوعية - للاهتمام بتشجير الساحات العامة. وتحاول الحكومات على قدر استطاعتها زيادة المسطحات الخضراء ووضع عقوبات رادعة للحد من القطع الجائر للأشجار. بالإضافة إلى ذلك تقوم بعض الدول العربية بتحديث اللوائح التي تنظم أشكال المباني وألوانها فضلًا عن مراجعة تراخيص المباني والمتاجر المخالفة، وغير ذلك من الخطوات الملموسة التي تحاول إعادة الانضباط لشوارعنا.
لست هنا بصدد الحديث عن الجهود الرسمية أو غير الرسمية لمحاربة القبح والتصدي للعشوائية، إن ما يهمني في هذا الشأن هو الإنسان نفسه وأثر ذلك القبح المحيط به على علاقاته الاجتماعية وطريقة تعاطيه مع حياته اليومية. إن ما أخشاه من وجهة نظري هو أن يعتاد المواطن على القبح ويصبح الجمال لا يشكل أولوية له في حياته اليومية. بدأت أشعر أننا ألِفنا العشوائية وتعودت أعيننا أن ترى القبح شيئًا عاديًا بل وينبغي التكيف معه. إن نشر الجمال يجب أن يكون أولوية للحكومات وللأفراد. لا بد ألا نستسلم لفكرة غياب الموارد الكافية ونطلع على تجارب الشعوب الأخرى التي استطاعت القضاء على العشوائية في شوارعها ومنها دول ليست غنية. لدينا عدد من المعماريين النابهين وخبراء التخطيط العمراني الكبار، فلماذا لا نستمع لهم ونرى ما لديهم من حلول علمية حقيقية؟
لا بد لنا أن نقتحم مشكلة القبح من جذورها. ماذا عن التعليم في مراحل الطفولة المبكرة؟ نستطيع أن نعزز قيم الجمال في نفوس الأطفال بداية من مراحل التعليم الأساسي. علينا أن نعيد الاهتمام بالفن في مدارسنا لتنمية الذائقة الجمالية لدى الطلاب. ينبغي لنا أن ندرك قيمة الفنون في صناعة الحضارة ودورها في تهذيب النفوس وتهدئة الطباع. علينا أن نفهم أن القبح الذي تراه أعيننا كل يوم ينعكس على حالتنا النفسية وشعورنا الداخلي الدائم بحالة يغلب عليها السلبية والإحباط. إن شوارعنا تستحق الأفضل فهي جزء من تراثنا ومرآه لهويتنا وكانت شاهدة على أحداث تاريخية عظيمة.
بـاحث في التــاريخ والتـراث
التعليقات