لم تعد منصات التواصل الاجتماعي مجرد مساحات لمشاركة الصور والذكريات و التواصل بين الإفراد ، بل تحولت في الآونة الأخيرة إلى "قاعات محاكم افتراضية". فبمجرد انتشار مقطع فيديوأو صورة أو تصريح مجتزأ لأحد المشاهير، تنصب المشانق الرقمية .فهل نحن أمام صحوة أخلاقية جماعية، أم أمام توحش رقمي يهدد العدالة؟
التحليل العميق لكل كلمة أو حرف أو مشهد أصبح أمرا كارثيا ، ف أى هفوة غير مقصودة، أو جملة أُخرجت من سياقها، كفيلة بأن تتحول إلى صك إدانة لا يرحم. نحن نعيش في عصر 'المجهر الرقمي'، حيث يتربص الجميع بالجميع، وتتحول فيه التفاصيل العابرة إلى قضايا رأي عام.و لم يعد الجمهور يكتفي بالمرور العابر على المحتوى، بل يمارس دور "المحقق" الذي ينقب خلف النوايا، ويحاكم الإيماءات قبل الكلمات.
و على سبيل المثال ، خلال القضية الشهيرة لجونى ديب و أمبر هيرد فى السنوات الأخيرة ، كانت منصات التواصل الاجتماعى تضج بمقاطع فيديو مجتزأة تحلل لغة جسد الطرفين، وتطلق أحكاماً بالإدانة أو البراءة يومياً ، و تعرض الطرفان لما يسمى بـ "الاغتيال المعنوي" قبل صدور حكم القاضي. تحول الجمهور إلى "قضاه" تهاجم هذا وتدعم ذاك بناءً على مقاطع فيديو مدتها 15 ثانية فقط.
هذا التشدد في التفسير خلق حالة من 'الإرهاب الفكري' لدى المشاهير وصناع المحتوى بل و كل من يستخدم منصات التواصل الإجتماعى ، الذين باتوا يسيرون على حبل مشدود من الحذر، خوفاً من سقطة لسان أو زاوية تصوير قد تضع حداً لمسيرتهم المهنية في لمح البصر، تحت وطأة أحكام تصدرها جماهير لا تمنح للمتهم فرصة للدفاع، ولا تؤمن بهامش للخطأ البشري.
الأدهى من ذلك انتشار " التزييف العميق" بفضل تطور الذكاء الاصطناعى ، و الذى أصبح ينتج مقاطع فيديو لا يمكن التفرقة بينها بين المقاطع الحقيقة. هذا التطور التقني المرعب لم يعد مجرد أداة للترفيه، بل تحول إلى سلاح فتاك في يد 'المحاكمات الرقمية'؛ حيث يتم فبركة تصاريح ووضع وجوه المشاهير في سياقات أو مواقف مسيئة بدقة متناهية. إننا أمام معضلة أخلاقية كبرى، ففي الوقت الذي نعاني فيه من سرعة إطلاق الأحكام، جاء التزييف العميق ليغتال الحقيقة تماماً، ويجعل من 'الدليل المرئي' – الذي كان يوماً قاطعاً – وسيلة للتضليل والابتزاز. لم يعد السؤال الآن 'ماذا قال هذا المشهور؟' بل أصبح 'هل هو حقاً من قال ذلك؟
هذا الواقع الجديد يفرض على المتلقي ضرورة تبني معايير صارمة للتحقق و يبرز دور و أهمية التربية الإعلامية الصحيحة ، و دور الاكادمييين فى توعية الجمهور بكيفية الكشف عن هذه المحتويات المزيفة.
إن نقد المشاهير وحق الجمهور في التعبير أمر مشروع، لكن تحويل المنصات إلى "غوغاء رقمية" تسحق الأفراد دون تثبت هو خطر يهدد الجميع. نحتاج إلى "وعي رقمي" يعيد الاعتبار لمفهوم الخصوصية و التحقق من المحتوى، فاليوم المشهور هو المتهم، وغداً قد تكون أنت من يقف تحت مقصلة "التريند".
رئيس قسم الإعلام الرقمى – جامعة ليوا
التعليقات