(نظرية التاريخ لهيكل)
حينما يتجول السائح في رحابِ قلعةٍ أو صرحٍ قديم فإن أول ما يدهشهُ هو الحضارة التي انبثقت من الأمة وقتذاك والتي ربما تكون قد تسيدت الزمان و المكان ردحاً طويلاً من الوقت ، لربما تكون حضارةً قد اندثرت لكنها كانت يوما ما موجودة هناك وأثرها أصبح الآن هنا خلف أحجار تلكَ القلعة أو زُخرفاتِ هذا الحائط أو تلكمُ الأيقونات المبعثرة على هذا السقف ....
لربما تكون هذه الحضارة عريقة واستطاعت رغم كلِ قوانين الاصطفاء أن تستمر و تزدادُ متانةً بأديم الأرضِ و تضربُ جذورها بعمقٍ كشجرةٍ باسقة الافنان تأبى إلا أن تكون ثابتة متينة صلبة جذورها عميقه لا يمكن لأحد أن يخلعها من مكانها الأزلي ....
بين هذا وذاك يظهر لنا التاريخ، فهو الذي يحدد لنا بأن الحضارةِ تلكَ سادت ثم بادت وتلك سادت و استمرت ولكليهما تاريخٌ ينضحُ أسفارهُ بأحداثٍ جسام ما بين حروبٍ وصراعات و غزوٍ و سطوٍ و آلامٍ و مسرات و أصداء ضحكاتٍ و أُخر آلامٍ و عذاب ...
إذا هو التاريخ بما يحملهُ أحياناً من قصصٍ يُرفعُ فيها الجبين افتخاراً و اعتزاز ، و قصصٍ أخرى يندى لها الجبين من هولِ الفظائع والشنائعِ القاسية التي ارتكبت ، إن كل ذلك صار حبيس أسفار التاريخ يُروى للأجيال القادمة ما قد كان فإما تستنبط منهُ العبر و تقفُ تداركاً عند محاذرِ الأخطاء لتتجنب الوقوع في شركِها مجدداً ، أو أن تكون هذه الأجيال كالفراشةِ التي تطوفُ حول السراجِ المشتعل تدور و تدور حولهُ ثم تقع في نارهِ الحارقه لتضمحل للأبد ، ثم تأتي من بعدها فراشةٌ أخرى تكرر ذات الحماقة وكأنها لم ترى مصير سابقتها ...
هنالك ثمةَ جدل كبير قائمٌ ما بين فريقين متضادين بالرأي حول التاريخ ، فمنهم من يقول بأن التاريخ يكرر نفسهُ دائماً مثل الفيلسوف الألماني (شبنجلر) والذي يعتقد هذا الرأي ويتبناه من خلال دراستهِ لوقائع التاريخ ، والفريق الآخر الذي يدعي بأن التاريخ لا يتكرر رغم تشابهِ الأحداثِ و رغم استمرار المؤثرات الممارسه على الفردِ والمجتمع مثل الفيلسوف (فريدريك هيغيل) ...
إنَ لكلاً الفريقين آرائهُ في ذلك وهي تشبهُ إلى حدٍ كبير الجدل البيزنطي الكبير ( قتلوه أم صلبوه) ، يحاولُ كل فريقٍ بإقناعِ أتباعهِ بما لديهِ من حججٍ في ذلك وحتى يسبغ على مقولتهِ الحقيقة فإنهُ يشرع بدمغها برداءِ المُعتَقد دعماً لقوله فإما ناكراً للدين من عينِ أصلهِ كالإلحاد أو مرسخاً له ومثبتاً لأقدامه بضراوة كالإيمان وذلك كنوع من الإسترشاد الدليلي للتاريخ ، و لأن العزف على الوتر الديني أمر مهم جداً لإثارة مشاعر الجميع و استنباهِ عقولهم كما عبر عن ذلك المفكر التجديدي عبدالرحمن الكواكبي ، لذلك لطالما حاول علماء التاريخ التنصل تماما أو الإستشهاد بتشريعات السماء وهنا يكمن الإنكار أو الإعتراف .
يعد الفيلسوف (فريدريك هيغيل ) من أشهر من حاول دراسه التاريخ وحاول إيجاد قانون لما يسمى التطور التاريخي وخلصُ في دراساته بأن التاريخ لا يكرر نفسه أبداً ، وكانت لهُ أراء في نظرية التاريخ كما أسماها ، فهو يؤمن بأن الإنسان لا يستطيع أن يخرج من فكر زمانه فكل ما يفكر فيه الشخص ويؤثر فيه ما هو إلا حصيلة تأثير المجتمع المنتمي لهُ هذا الشخص أياً كان فما تفكر فيهِ أنت الآن يختلف عما كان يفكر فيه جد جدك قبل مائةِ عام و سيختلفُ عما سيفكر بهِ حفيدُ حفيدك بعد مائةِ عام ، لأن تأثير المجتمع على الفرد يختلف من حينٍ لآخر ، هنا يكون القانون منطقياً نوعاً ما ، لكن قانوناً آخر قالهُ يشوبهُ برأيي الخطأ إذ قال : لا يستطيع أحد أن يضع قانوناً أو تشريعاً أو فلسفة تلائم كل الأزمان ومع تقدم الزمن لا يمكن لأي فكرة مهما كانت صحيحة أن تلائم الأجيال اللاحقة مالم يتم تغيرها أو تعديلها أو نسخها .....
إن هذهِ النظرية تنسف الفكر الديني للمجتمع و تدعو لتجديد مُسلماتهِ بما يتلائم مع متطلبات كل عصر ولا مانع اذاً من التعديل عليها و تقليم أظافرها ...
وما يناقضُ هذه النظرية برأيي هو الفكر الإسلامي المتمثل عبر كتابهِ التشريعي (القرآن ) والذي واكب و يواكب و سيواكب كل الأزمان ، فالمجتمع المكي أو المدني البسيط جداً والذي نزل بين ظهرانيه القرآن لم يكن دستوراً لحضارة صحراوية رعوية أو زراعية بسيطة فحسب بل كان دستوراً راسخا لأمم و أجيال لاحقة استطاعت حكم ثلث مساحة الكرة الأرضية بذات الأحكام والتشريعات التي نزلت على المجتمع البسيط في مكة و المدينة بل كان دستوراً خالداً لايزال يُقتبسُ ويُستنبط منهُ القوانين التي لائمت جميع مراحل حياة المسلمين في شتى بقاعِ الأرضِ التي جاسوها ولم يعد كتاباً لائم مرحلة و بقعة معينة فقط.
لذلك استطاع الخطاب الديني التجدد عبر كل عصر بما يتلائم مع المحدثاتِ والمتغيراتِ التي تطرأُ على هذا العصر دون المساس بالأركان الراسخة لهذا الخطاب و التي تمثلت بنصوص قرآنيه خالدة مستمرة في جوهرها وتأثيرها المحيط ، بل تكرر التاريخ في نظري من خلال إسقاطات تاريخية سردها القرآن لأجيال سابقة أصابتها النعماء أو لحق بها الضراء نتيجة إيمانها بالله أو جحودها به ، حيثُ كان الهدف من هذا السرد هو إظهار النتيجة النهائية لما حدث لهذه الجماعه أو العُصبةِ أو القرية إما محقاً أو ازدهاراً.
وتكررت تلكَ الحوادثِ بالتتابع عبر مراحل زمنية متعاقبة وصولاً لمعركة (أحد) والتي هُزمَ فيها المسلمون نتيجة عدمِ اتباعهم لتعليماتِ نبيهم ومخالفةِ أمرهِ، لتعد هذهِ الحادثة نوع من التكرار التاريخي لإحدى معادلاتهِ البينة والتي تقول بأن عصيانَ الإتباع للأمر ينتهي بالعقاب وهذا ما تكرر مع كل الأقوام التي بُعث فيها رُسل و أنبياء ، فإذاً هذا تكرار واضح و جلي للتاريخ والذي يراهُ (هيغل) بأنهُ لا يتكرر رغم معتقدهِ الذي يقول بأن التاريخ هو المؤثر الرئيس على العلمِ والفلسفة لأي جيل أو عصر .....
إن أي نظريات أو وضعيات أرادَ منها صانعوها أن تنال من مُسلمات واضحة للشرائع مهما كانت دقيقة ومُشكِكَة في تلك الشرائع فإنها سُرعان ما يظهر فيها ثغرة تكشفُ زيفَ هذه النظرية لتكبرَ هذه الثغرة و تتحول لرقعهٍ كبيرة تكبر على الراقع سدَ فجوتها، إن الشرائع لو لم تكن ذات مصدر إلهي لتم اكتشاف تلك الثغرات فيها والتي تنال من مصداقيتها ، حتى من يدعون اكتشاف تلك الثغرات إفحاماً منهم لمعتنقي تلك الشرائع فإنهُ سرعان ما يتهاوى اكتشافهم أرضاً لما يزعمون لأن المشرع هنا هو الله وليس الإنسان لذلك سيكونُ مصير المشككين الفشل حتى لو نجحوا بكسبِ جوله فإنهم سينهزمون بنهايه النزال بشكلٍ قطعي.
التعليقات