شاب مصري يعيش في بلغاريا، باحث وكاتب في تاريخ الموسيقى العالمية، ومنذ سنوات قرر أن يؤسس مشروعه الخاص إلى جانب الدراسة، وهو عبارة عن سلسلة مطاعم في مدينة بلوفديف في بلغاريا، حيث كان هذا جزءًا من حلمه في تأسيس مشروع له علاقة بالطعام كونه يُعبر عن ثقافات الشعوب المختلفة.
ولأن لديه رسالة للعالم وضع لافتة على أول مطعم افتتحه في بلوفديف وكتب عليها "إذا كنت لا تملك المال يمكنك تناول الطعام مجانًا"، وعلى مدار سنوات وسياسته لم تتغير، حتى أصبحت مطاعم نور المصري الملاذ للفقراء والمحتاجين في بلغاريا.
كان نور يعمل في صمت دون أن يشعر به أحد، لأنه لم يكن يسعى إلا لتحقيق رسالته الإنسانية، المتمثلة في مساعدة الفقراء والمحتاجين، حيث تتمثل سعادته الحقيقية في أن يرى بسمة على شفاههم، إلى أن ظهرت قضية الشاب البلغاري "ميتكو" بائع الجوارب الفقير الذي كان يتردد على مطعم نور لتناول الطعام مجانًا مع العشرات وربما المئات مثله.
لاحظ نور معاناة ميتكو وكيف يعمل ساعات طويلة من أجل عائد بسيط لا يسد حتى قوت يومه، وفوق كل هذا تعدى عليه أحد أصحاب المطاعم الكبرى في بلغاريا، ولأنه صاحب نفوذ قوي، وله علاقة بالمافيا البلغارية، لم يستطع إنسان أن يقف بجانب "ميتكو" بائع الجوارب، غير نور المصري الذي تضامن معه وسانده ضاربًا عرض الحائط بأي مخاطر قد يواجهها نتيجة لذلك، إلى أن تفاعل الشباب البلغاري معه، وتظاهروا أمام المطعم وقذفوه بالجوارب القديمة، تعبيرًا عن غضبهم وتضامنهم مع "ميتكو"، وتم القبض على صاحب المطعم رغم نفوذه.
لم يكتف نور بذلك بل بادر بمساهمة مالية تُقدر بعشرة آلاف ليفا أو ما يُعادل مائة ألف جنيه مصري، من أجل أن يُشجع الجميع لمساعدته، وعرض عليه أن يبني له بيتًا ويفتح له محلًا، وخلال ساعات قليلة أصبح نور المصري حديث الإعلام في بلغاريا، وأصبح رمزًا للإنسانية في بلغاريا.
وفي تقرير تليفزيوني للقناة البلغارية Nova عن نور الدين التميمي شقيق الإعلامي محمود التميمي، أكد نور أن هذا جزءًا من ثقافتنا المصرية، حيث تربينا على مساندة ومساعدة الضُعفاء والمحتاجين.
وحول الطعام المجاني الذي يقدمه، أكد أنه يشعر أن أرباحه تزيد يوميًا كلما زادت عدد الوجبات المجانية التي يقدمها للفقراء والمحتاجين، وأنه حتى الآن لا يعرف كيف يحدث ذلك؟.
وفي التقرير نفسه عندما سألوا "ميتكو" عن مساعدة نور" شكره وعبر عن سعادته بمساعدته، وقال إن المفاجأة أن المساعدة جاءت من شاب مصري وليس بلغاريًا، وفي التقرير نفسه استعرضت القناة عشرات الفقراء الذين يُساعدهم نور سواء بالطعام المجاني أو ماديًا في الأزمات، وأكدت القناة نصًا أن بلغاريين كثيرين يعتمدون على نور المصري.
يذكرني نور المصري بالأستاذ الدكتور أحمد شاهين أستاذ الفيروسات بجامعة الزقازيق، وعضو مجلس الشيوخ، وهو في مقام الخال لي، حيث كنت أزوره باستمرار في معمل التحاليل الطبية الخاص به في مدينة بلبيس، والذي يحمل اسمه وكنت ألاحظ أن معظم التحاليل مجانية لفقراء ومحتاجين، فقط يكفي أن تقول إنك لا تستطيع الدفع، وسيكون التحليل مجانًا.
وفي إحدى المرات سألته عن التحليلات المجانية التي يقدمها للفقراء والتي تُعد أكثر بكثير من التحليلات التي يتقاضى عليها أموالًا، قال لي نفس إجابة نور للقناة البلغارية، أشعر بأن التحليلات المجانية كلما زادت تزيد أرباح المعمل، وأكد لي وقتها أنها "بركة ربنا سبحانه وتعالى"، وهذا ما يحدث على مدار ربما أكثر من 40 سنة هي عمر المعمل، إضافة إلى مساعدته للعشرات وربما المئات أيضًا ولا يعلم أحد عنه شيئًا.
نماذج كثيرة في مجتمعاتنا تستحق أن نُلقي عليها الضوء، كنماذج يُقتدى بها، ورموز مثل الراحل الدكتور محمد مشالي «طبيب الغلابة» الذي لم نكن نعرف عنه شيئًا إلا قبل وفاته بسنة واحدة، رغم أنه طبيب الغلابة في طنطا على مدار أكثر من 60 عامًا وربما أكثر، وغيرهم المئات لكننا للأسف نعيش في زمن «الترندات» نتيجة إيمان وسائل الإعلام المصرية بنظرية «اضحك عشان الصورة تطلع حلوة»، وللأسف دائمًا «تطلع...»، لأننا لا نملك قواعد ومعايير ومبادئ نسير عليها، ولا نملك ضميرًا صادقًا تجاه الجمهور والمجتمع، ولا نملك رؤية واضحة لخدمة مجتمعنا، ونعمل بسياسة «السير مع القطيع» دون أن نُجهد أنفسنا بسؤال بسيط جدًا: أين يذهب هذا القطيع؟، ومن يقوده؟.
الغريب أنه وفي اليوم نفسه الذي كانت تحتفي فيه وسائل الإعلام البلغارية بـ"نور المصري" كنا نحن نحتفي بـ"أم نور" وهي تصنع الكفتة في غرفة النوم، مع كامل تقديري واحترامي لـ"أم نور"، لكن ما هو الإنجاز الذي قدمته للبشرية حتى تتصدر عناوين جميع الصحف في مصر، وما هو الإنجاز الذي يجعل مذيعة شهيرة تُجري معها لقاء تليفزيونيًا مدته أكثر من 45 دقيقة، يتخلله مشاهد راقصة لـ"أم نور" على أغنيات غاية في الإسفاف، هذا إضافة إلى عشرات البروموهات، وليس هذا فقط، فعناوين الصحف أصبحت محجوزة لأراجوزات المهرجانات، وكل أصحاب «الترندات»، بعيدًا عن أهميته أو أهمية ما يفعله، فقط يكفي أن يكون «ترند» ليصبح حديث الإعلام، ونعود ونتحدث عن المجتمع والقيم والأخلاق والقدوة.
كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من الإسفاف المُخزي والمُخجل والمُحبط؟! ولماذا اختلفت أولوياتنا؟
كلمة أخيرة:
من المؤكد أن لدينا كتابًا وإعلاميين عظماء وأصحاب ضمائر، فالمجتمع الآن في أشد الحاجة إلى إعلام وجهته الحقيقية البناء وليس الهدم، النهضة لا التدمير، إعلام ينمي أجمل ما فينا وليس أسوأ ما فينا، إعلام يعرف قيمة الرسالة التي يحملها، وحجم تأثيرها ودورها في الهدم قبل البناء.
mhmd.monier@gmail.com
التعليقات